العراق: جوع يلوح في الأفق… وجورج الراسي آخر ضحايا حكومة «كل مين إيده إلو»
ليس الجفاف والفساد السياسي وحده هو الذي يستشري في جسد العراق، الذي أنهكته الحروب والاستبداد لعقود، وليست الأحزاب الطائفية فقط هي ما تشكل التهديد الأبرز، الذي يواجه مستقبل العراقيين. هناك تهديد أشد فتكاً يهدد أرض الرافدين ومهد الحضارات هذه الأيام، ألا وهو الجفاف، الذي يضرب البلاد الحزينة واليتيمة من جنوبها إلى شمالها.
لقد نشرت تقارير أخيراً تؤكد أن الجفاف قد ضرب بشكل قاس منطقة الأهوار في جنوب العراق، وتظهر كيف تسبب انحسار المياه في تلك المنطقة المُدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسك” بهلاك نحو 750 جاموساً. وقد أدى أيضاً إلى هجرة جماعية للعوائل التي تسكن المنطقة وتعتاش على خيراتها منذ عشرات السنين.
لغاية آذار/مارس 2022، نزحت أكثر من 3300 عائلة بسبب «عوامل مناخية» في عشر محافظات في الوسط والجنوب. والسبب يعود إلى «شحّ المياه، أو الملوحة المرتفعة فيها، أو نوعية المياه السيئة».
وقد أظهرت صور مروعة – نشرتها قناة «العربية» على موقعها الالكتروني وغطت مناطق مختلفة، سواء في دهوك (شمالاً) أو محافظة ذي قار جنوبي البلاد – جفافاً قاحلاً وتربة متعطشةً، وأنهاراً منحسرة.
فيما تداول العديد من الناشطين العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي تلك الصور المحزنة، التي تدق ناقوس الخط. ولا أحد يسمعها من المسؤولين.
كما بين تصوير جوي بالقرب من سد دهوك، بقايا قرية غاري كسروكة، التي عادت إلى الظهور جزئيًا مؤخرًا مغمورة بالمياه، إثر انخفاض كبير في منسوب السد بسبب الجفاف، بعد أن هُجرت عام 1985، بحسب ما أفادت وكالة الأنباء الفرنسية.
ويؤكد التقرير، الذي بثته قناة «العربية» أن الجفاف استفحل في أكثر من 70 قريةً، جنوب العراق وسط صيف حار شحت فيه المياه كثيرا. وقد تسبّب الانخفاض الكبير في مياه نهر الفرات بجفاف بعض روافده وحرمان ثلث محافظة الديوانية جنوباً مما يكفيها من المياه للاستخدامات اليومية.
وقد توقفت عشرون محطة تصفية للمياه عن العمل، كما أفاد مسؤولون محليون. بينما بات العديد من السكان في تلك القرى ينتظرون مرور صهاريج الماء التابعة للمحافظة، مرةً أو مرتين في الأسبوع، لتزويدهم بما يعوّض القليل من النقص الذي يعانون منه.
وطبقا لتقارير دولية فإن العراق يعتبر من بين أكثر خمس دول في العالم عرضة لتأثيرات التغير المناخي، وذلك بسبب الارتفاع المستمر في درجات الحرارة والانخفاض المستمر في مستوى مياه نهري دجلة والفرات، وهو ما تعزوه السلطات العراقية إلى سدود بنتها إيران وتركيا.
وقد تسببت ظاهرة الجفاف والتصحر أيضاً في ارتفاع مستوى البطالة، حيث أغلقت العديد من الأعمال المرتبطة بالزراعة والرعي.
اللافت أن حكومات «المحاصصة الطائفية»، التي جاءت الى العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003 لم تول المناطق الزراعية أي اهتمام. ولم تضع في برامجها السياسية استراتيجية لمواجهة التبدلات المناخية التي تجتاح العالم، بل كانت أنشطتها محصورة في ما سمي «المنطقة الخضراء». وبالطبع، التنافس على الحصص كان على الدوام بين «الولائيين»، التابعين لإيران، على حساب المواطن العراقي البسيط، الذي لا يعرفه الساسة إلا في فترة الانتخاب.
قد لا يكون التغيير المناخي الذي أصاب البلاد أولوية لأي حكومة عراقية مقبلة مثقلة بالكثير من القيود الاقتصادية والسياسية والإقليمية، لكن الجوع الذي بدات ملامحه تلوح في الأفق سيسقط أقوى الحكومات، والأحزاب والميليشيات المسلحة العابرة للهوية الوطنية العراقية.
ذات يوم قال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد عن أهله العراقيين:
يا صبر أيوب.. إنا معشر صبر
نغضي إلى حد ثوب الصبر ينبزل
لكننا حين يستعدى على دمنا
وحين تقطع عن أطفالنا السبل
نضج، لا حي إلا الله يعلم ما
قد يفعل الغيض فينا حين يشتعل!
ماذا نقول لوالدته وبماذا نعزيها؟
ومن العراق إلى بيروت المنكوبة. بيروت التي لبست من جديد الأسود حزناً ووجعاً على ابنها الشاب جورج الراسي. امتلأت صفحات الـ«سوشيال ميديا» بصوره وتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات قصيرة من حفله الأخير في سوريا. لم يمت جورج، الذي أحبه اللبنانيون لصوته الجميل وطلته البهية وصراحته المعهودة في المقابلات التلفزيزنية، لأنه كان مسرعاً وهو يقود سيارته برفقة مديرة أعماله.
لقد قتل بسبب اهمال الحكومة التي لا تأبه لحياة مواطنيها. جورج قاد سيارته لإحياء حفلة في سوريا وبعد انتهائها لم يرد البقاء، لأنه كان على موعد مع ابنه الصغير. أراد أن يعود رغم تعبه إلى بيروت ليصطحب ابنه إلى مكان كانا قد اتفقا على زيارته، حسب ما ذكر في بعض الأخبار. قاد سيارته وهو يحلم بلقاء صغيره وبضمه وشمه. فهو لطالما تحدث عنه وعن الضوء الذي حمله ذلك الصغير إلى حياته وأدى إلى تغييرها بالكامل. ولكنه اصطدم بإهمال الدولة ووزارة الأشغال. اصطدم بحاجز حجري مرمي في وسط الطريق. لا تحذير قبله. لا أضواء تعلن عن وجوده. هكذا مات مع مرافقته بسرعة، وغاب صوته عن لبنان، وهو في عز شبابه ليحترق قلب أمه واختيه نادين وساندرين الراسي، اللتين لم تنشف دموعهما منذ انتشار الخبر. جورج لن يكون الضحية الأخيرة في ظل حكومة «كل مين يدو إلو». الضحايا كثر والجمرة لا تحرق سوى مكانها.
إن صراخ أم جورج وبكاءها ورقصتها لحظة الوداع ستبقى كلها حاضرة في ذاكرة اللبنانيين لتزيد من قناعاتنا أن كل الحكومات متشابهة ما دام فصل النفاق والاحتيال والفساد لم يغلق.
كاتبة لبنانيّة