ما خسائر تركيا من التوسع الأخير لحلف الأطلسي؟
في عام 1949 تم الإعلان عن تأسيس حلف شمال الأطلسي، كأداة فعالة لمواجهة الاتحاد السوفييتي عندما كان الزعيم السوفييتي ستالين يتوسع غربا. كانت البداية انضمام 12 دولة إليه، ثم حصل التوسع الكبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث انضم العديد من دول أوروبا الشرقية في عام 1997. لكن الحلف عانى من تصدعات كبيرة في السنوات الأخيرة، إلى الحد أن الرئيس الفرنسي ماكرون وصفه بالميت سريريا.
مؤخرا يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا نفخ الروح فيه مجددا، وأعاد اصطفاف أعضائه بعد أن تخلخل أيمانهم به.. كما توهج بريقه السياسي والعسكري من جديد، فهرولت دول أخرى للانضمام إليه كدول البلطيق.
لقد أثار طلب انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف جدلا سياسيا واسعا مع تركيا، هذه الدولة التي انضمت إلى الحلف في عام 1952، وكان حصولها على العضوية فيه حدثا مهما، أضاف إلى الحلف إمكانات سياسية وعسكرية بالغة الأهمية. فموقعها الاستراتيجي كان صمام أمان الجناح الجنوبي الشرقي للحلف، الذي كان يخوض صراعا شديدا وتنافسا شرسا مع المنظومة السوفييتية منذ منتصف أربعينيات القرن المنصرم، كما شكلت إمكاناتها العسكرية طاقة مضافة للحلف، جعلته يعتمد عليها في ساحات صراع دولية كثيرة. وهذا الجدل السياسي مرده إلى أن أنقرة ربطت موافقتها على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، بقيام الأخيرتين بتسليمها بعض المطلوبين والموجودين على أراضيهما، وعدم السماح بتنظيم نشاطات من قبل حزب العمال وحركة عبدالله كولن في البلدين، ويبدو أن هاتين الدولتين قد أذعنتا لهذا الطلب، فتم توقيع مذكرة تفاهم مع تركيا، تعالج بواعث قلقها المتعلق بهذا الخصوص، وبذلك سجلت أنقرة نقاطا مهمة لصالح أمنها القومي، لكن بعض المراقبين يرون أن هذه ليست حقيقة الموضوع، ويقولون إن نشاط حزب العمال الكردستاني ومنظمة عبدالله كولن، هما الأضعف على هاتين الساحتين بالمقارنة مع نشاطاتهما في الساحة الأمريكية ودول أوروبية أخرى، إذن ما الذي كانت تبغيه أنقرة من وراء اعتراضها على انضمام الدولتين إلى حلف الأطلسي؟ إن الإجابة على ذلك تتطلب أولا معرفة أن السويد وفنلندا كانتا من أوائل الدول التي اعتبرت حزب العمال الكردستاني حزبا إرهابيا وصنفته على هذا الأساس، كما أن تسليم كل شخص تطالب به أنقرة غير ممكن وفقا لقوانين البلدين، فبعضهم يحملون جنسية هاتين الدولتين، ويتولون مناصب رفيعة. على سبيل المثال هنالك نائبة في البرلمان السويدي من أصول كردية، فكيف يمكن تسليمها وهي ممثلة لفئة من الشعب، أيضا هنالك المحكمة الأوروبية التي تخضع حكومات الاتحاد الأوروبي لقراراتها، والتي من الممكن أن يلجأ لها الأشخاص المطلوبون من قبل تركيا ويرفعون قضايا على حكوماتهم أمامها، إذن حصول تركيا على نتائج من هذا الملف ضعيفة، مقارنة بأصوات الاعتراض التي سُمعت منها وعلى أعلى المستويات، مع ذلك هي حاولت الاستثمار فيه لتأكيد أهمية صوتها في السياسات الدولية، بما ينعكس إيجابيا لصالحها في الداخل التركي أولا. وثانيا ممارسة الضغط على الدول الأوروبية لتقييد نشاطات منظمات كردية أخرى، تعتبرها أنقرة واجهات لحزب العمال الكردستاني مثل «قسد» وغيرها، لكن حقيقة الموضوع تشي بأن خلف هذا الاعتراض يكمن سبب رئيسي ومهم، وهو شعور تركيا بأنها ستخسر جزءا من أهميتها في الحلف بانضمام السويد وفنلندا؟
يبدو أن صانع السياسة التركية وجد مؤخرا أن خياراته محدودة، أمام التوسع داخل حلف شمال الأطلسي، وليس أمامه سوى القبول بذلك
إن البحث في الإمكانات الذاتية للسويد وفنلندا، مضافا إليه موقعهما الجغرافي، يعطي فكرة واضحة عن عناصر القوة التي ستُضاف إلى إمكانيات الحلف بعضويتهما في حلف شمال الأطلسي، فلو نظرنا إلى المؤشر العالمي لهشاشة الدول، نجد أنهما يعتبران من أكثر الدول تماسكا واستقرارا في العالم، حيث يتمتعان بحالة ازدهار عال جدا واستقرار أمني كبير، بلإضافة إلى تماسك مجتمعي صلد. أما من الناحية الاقتصادية فلديهما تطور تكنولوجي متقدم، وتقعان في مصاف الدول الغنية جدا، ولديهما إنتاج عسكري يشمل معدات ثقيلة وأسلحة على قدر كبير من التطور، ولو بحثنا في المستوى الجيوستراتيجي نجد أنهما يمثلان نفقين عسكريين استراتيجيين متتالين، أمام دولة أخرى من الناتو هي النرويج، في مواجهة روسيا الاتحادية من الاتجاه الشمالي. فالنرويج كانت الدولة الوحيدة من الناتو التي تطل على بحر الشمال، الآن هي تشكل مع السويد وفنلندا جبهة كبرى لهذا الحلف بمسافة 1500 كم بمواجهة روسيا الاتحادية. وهذا يمثل عمقا كبيرا لحلف الأطلسي قوامه دول غنية ومنتجة وصناعية. وإذا كانت تركيا تمثل الجيش الأكثر عددا في الحلف بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ضم كلا من السويد وفنلندا سيصبحان قوتين وازنتين داخل هذه المنظومة، ومصدرا من مصادر الصناعة الثقيلة فيها، وهذه المواصفات والإمكانيات لهاتين الدولتين، جعلت صانع القرار التركي ينتابه شعور بأن هذا التوسع سوف يأكل من جرف أنقرة ومهابتها في حلف الأطلسي، خاصة أنه منذ مبدأ ترومان الذي رسم سياسة خارجية أمريكية تسعى لاحتواء التوسع الجيوسياسي السوفييتي، اكتسبت تركيا أهمية استثنائية بالنسبة لأوروبا والناتو، وغدت الدولة المُدللة لأهميتها الجيوسياسية، حيث تقع على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي السابق. ولهذا السبب أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية المليارات على تركيا واليونان، إلى الحد أن واشنطن في زمن وزير الخارجية الأسبق كيسنجر، غضت الطرف عن الغزو التركي لجزيرة قبرص، وضحّت بكل من قبرص واليونان لسواد عيون أنقرة كي لا تغضبها، لكن هل كان بإمكان صانع القرار التركي إعاقة انضمامها للحلف؟
يبدو أن صانع السياسة التركية وجد مؤخرا أن خياراته محدودة، أمام هذا التوسع داخل حلف شمال الأطلسي، وليس أمامه سوى القبول بذلك، فهو يدرك أن فنلندا والسويد تقعان مباشرة على الحدود الشمالية لروسيا والحدود الجنوبية لأوروبا، وهذه الحدود تبلغ حوالي 2800 كم، ما يجعل مسألة انضمامهما حاجة حيوية لتأمين الأمن الأوروبي وأمن الولايات المتحدة، في ضوء المفهوم الجديد لاستراتيجية الحلف، وأن استمرار رفضه لانضمام هاتين الدولتين لن يجدي نفعا له، بل قد يدفع واشنطن وأعضاء آخرين في الحلف لتعديل اللائحة الداخلية للعضوية من أجل انضمامهما، وبما يفقد الفيتو التركي فاعليته في قرارات الناتو. لذلك لم ترغب تركيا في أن تصر على موقفها خوفا من أن تمضي الأمور في هذا الاتجاه، وعليه هي رضيت بالقليل واتجهت نحو الاستثمار الأضعف في هذه الصفقة، وهو إظهار أنها حققت نصرا سياسيا كبيرا من خلال الربط بين الموافقة على انضمام السويد وفنلندا، وملفي حزب العمال الكردستاني وحركة عبدالله كولن، وتم تسويق هذا الحراك السياسي إلى الداخل التركي كأحد نجاحات الحكومة على صعيد السياسة الخارجية.
من خلال هذا الملف يبدو واضحا أن صانع القرار السياسي التركي، ما زال يُكرّس مبدأ خدمة الواقعية السياسية من جهة، وخدمة المصالح القومية من جهة أخرى في سياساته، ولأن ميزان العلاقات الدولية، خاصة في أوقات الأزمات، هو ميزان متقلب ولا يبقى على حال خلال ساعات أو خلال أيام، لذلك تبدو وكأنّ السياسات التركية متقلبة، مع ذلك يحسب للسياسة التركية إجادتها لعبة التوازنات الحساسة.