النظام السوري وحيونة الإنسان.. «فلسطين الصغرى» شهادة جديدة من المخيم.. وزيت الزيتون الفلسطيني بطلاً لمسلسل
بيدر ميديا.."
النظام السوري وحيونة الإنسان.. «فلسطين الصغرى» شهادة جديدة من المخيم.. وزيت الزيتون الفلسطيني بطلاً لمسلسل
أراهن أنك إن جلست إلى الفنان محسن غازي جلسة مقهى، بعيداً عن حديث السياسة وشؤون نقابة الفنانين، ستجد فيه ابن ضيعة ودوداً، سيبدو، رغم أنه يقيم في دمشق منذ نزل إلى الجامعة، وكأنه قد جاء للتو من الضيعة، حاملاً طزاجتها وقصصها وطرائفها وأعشابها. فقط حين يصبح المرء في موقع السياسي، العسكري، بل وزعيماً لنقابة الفنانين، سيغدو على الفور كائناً آخر.
حتى يوم أمس، نعني غداة وفاة النقيب السابق زهير رمضان وانتخاب (تعيين) خلفه غازي، لم نكن نسمع له حسّاً، لكن من اللحظة التي تسلّم فيها محسن العهدة بتنا نسمع ونرى كل يوم حكاية صلف واحتقار للبشر جديدة، على نحو ما كنا نشهد في عهد سلفه.
في آخر مؤتمر صحافي له، وكان بصدد الإعلان عن حفل الفنان المصري هاني شاكر في «دار الأسد للثقافة والفنون» ، منتصف الشهر الجاري، قدم الفنان غازي نسخة نهائية وكاشفة عن معدنه الأصل.
بضع دقائق تناقلتها المواقع والصحف كانت فظيعة بما يكفي لتقول: يا إلهي! ما الذي تفعله السلطة بالمرء، ما الذي يفعله الانتساب إلى نظام متوحش لصورتك كإنسان؟! أسئلة محزنة كلها تعود بك إلى عنوان كتاب الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان «حيونة الإنسان» ويعرض فيه للآلية التي يجري فيها تحويل الإنسان إلى الكائن المتوحش، المتوفر بكثرة في حياتنا، والمختفي في أركان المقهى الذي جالسْنا فيه بشراً، من لحم ودم وقصص مضحكة وأعشاب برية مغلية على الجمر.
أسئلة محزنة كلها تعود بك إلى كتاب ممدوح عدوان «حيونة الإنسان» ويعرض فيه للآلية التي يجري فيها تحويل الإنسان إلى الكائن المتوحش، المتوفر بكثرة في حياتنا.
قبل الكلام بإمكانك أن تتفرج على لغة جسد غازي، عدوانيته، واحتقاره لصحفيين وصفهم بالغدر وقلة الحرص وغياب الأمانة. بنبرة عسكرية جلفة طلب من المصورين والصحافيين ألا يلتقطوا صوراً له أثناء الكلام، فلربما، قال، نشروا له واحدة يرفع فيها حاجباً، أو يفتح فيها فماً، أو يغمض فيها عيناً «مما لا يحدث إلا في سوريا» ، حسب قوله!
ثم لم تكد صحافية تسأل إن كان هناك تفكير في دعوة المطربة أصالة، كما دعي هاني شاكر، للغناء في دمشق، حتى انتفض النقيب وصرخ «أنتم تتصيدون بنا» . وبالطبع لم يجب في النهاية عن السؤال.
جوابه الأسوأ جاء عندما سئل لماذا سيغني شاكر في» الأوبرا» لا في قلعة دمشق، حين قال: «هل تريدون أن نأخذه ليغني في (حيّ) الدحاديل!» . والدحاديل حيّ شبه عشوائي في أطراف مدينة دمشق، ويُفهم من عبارة غازي أن الحي مثال للمكان المحتقر، المكان الضد لـ «دار الأسد» ، أو قلعة دمشق.
جوبه الفنان محسن غازي بعد المؤتمر، بحملة تقصدت نسخ صور له بأوضاع مختلفة، تحدياً ومناكفة ودرساً، بعين مغمضة، وفم مفتوح، وإيماءات غاضبة مختلة.
لكن أيهما أصدق بين الوجهين؛ وجه فنان المقهى الودود، أم نقيب الفنانين متحدثاً من قلب «دار الأسد»؟ وجه الضيعجي، أم النقيب الرافع سيف الرقابة والمنع والتهديد، سيف الغازي؟
الأرجح أن الدخول في ماكينة النظام، حتى لو اقتصر الأمر على مجرد تصديق دعايته، حتى لو اكتفى المرء بالاستسلام للمعلومات والروايات التي يقدمها إليه، وتشكيل وعيه عبر فلتر النظام المتاح، الأرجح أن ذلك هو ما سيسهم في حَيْونة الإنسان.
فلسطين الصغرى
شاهدت أخيراً الفيلم الوثائقي «فلسطين الصغرى» ، الذي يسجل بضعة تفاصيل من حصار مخيم اليرموك في دمشق، بكاميرا عبدالله الخطيب، الشاب الفلسطيني الذي كان من بين آخر من غادروا المخيم في الباصات الخضر إياها إلى الشمال السوري، ومعه أشرطة صارت فيلماً، وشهادة لا بد ستبقى للتاريخ.
يصور الفيلم اللحظات الأكثر إيلاماً في حياة الحصار، لا دم في الفيلم، ولا بطولات، إنما فقط الجوع، بشر يبحثون في التراب عن حبات عدس منسية، وفي النفايات عن أي شي للأكل، وأطفال يبحثون في ما تنبت الأرض من حشائش.
هو شهادة أخرى كي يرى المزوّرون (من فلسطينيي النظام السوري خصوصاً) من هم هؤلاء الذين كان يحاصرهم النظام والميلشيات الفلسطينية التي وقفت رأس حربة معه في حصار المخيم، وماذا كان يفعل بهم الحصار.
لا دم في “فلسطين الصغرى”، ولا بطولات، إنما فقط الجوع، بشر يبحثون في التراب عن حبات عدس منسية، وفي النفايات عن أي شي للأكل، وأطفال يبحثون في ما تنبت الأرض من حشائش.
يأخذك الفيلم إلى أفكار تتوالد بلا توقف؛ أين هم هؤلاء المحاصرون اليوم، ما هي مصائرهم، تعالوا مثلاً لنسجل روايتهم فيما يشاهدون فيلماً عنهم (كما فعل قيس الزبيدي في فيلم له عن مخيم للاجئين)، ماذا بقي من الحصار في يوميات حياتهم حيث هم الآن.
هناك تحد آخر؛ أن يصور فيلم عن «المناضلة» الفلسطينية ليلى خالد أثناء مشاهدتها هذا الفيلم. ولتتكرر التجربة مع رشاد أبو شاور، زكريا محمد، زكي درويش.
يفترض ذكر الأسماء هنا طبعاً أن هناك بقية من قلب لدى هؤلاء، رغم أن الميؤوس منهم أكثر من أن نتمكن من عدّهم.
الحكاية لم تنته إذاً؛ الجوع والموت وأشرطة السينما الوثائقية ستظل وراءكم.
جريمة حرب
يثبت المسلسل التلفزيوني الهائل «مو» (وهو اسم البطل واختصار لاسم محمد)، الذي يبث حالياً على نتفليكس، أشياء كثيرة (لا يتسع المكان هنا للكتابة عنها)، من بينها أن الأجيال الفلسطينية الجديدة، البعيدة جداً عكس الوطن، لم تنس، بل هي تثبت أيضاً أنها تقدم الرواية بشكل أكثر إبداعاً. نحسب أن الأمر سينطبق على الأجيال السورية الجديدة التي لا يمكن لها أن تنسى، كما سيسهم المناخ الجديد (فرص التعليم الأفضل، والحرية..) في تقديم الحكاية على نحو أفضل، ربما.
رائع كيف حوّل “مو” زيت الزيتون الفلسطيني، برمزيته المعروفة، إلى بطل لمسلسل، فالأم، وبالتالي ابنها، تتصرف مع قارورة زيت الزيتون كإكسير للخلود.
يثبت «مو» أيضاً أن الواقعية السحرية ليست حكراً على أدب أمريكا اللاتينية، رائع كيف حوّل المسلسل زيت الزيتون الفلسطيني، برمزيته المعروفة، إلى بطل لمسلسل، فالأم (الممثلة فرح بسيسو)، وبالتالي ابنها، تتصرف مع قارورة زيت الزيتون كإكسير للخلود، إنه يشفي، ويطيب المذاق، وينفع حتى في مبازرات السوق. تقول الأم: «يا بني، زيت الزيتون يجلب الضوء وأريد أن أضيء حياتك» . مفردة زيت الزيتون واقعية تماماً، ونعرف جميعاً هاتيك الأمهات والجدات اللواتي يتصرفن بالطريقة ذاتها.
الجميل في المسلسل أنه يجعل من المفردة بطلاً وحاملاً لصراع مديد مرير، بإطار في منتهى اللطف والطرافة وخفة الدم، انظر مثلاً كيف يقول مو لليهودي بأن نسبة طبق الحمّص لنفسه هو جريمة حرب. وبالتالي فإن التخلي عن زيت الزيتون وأشجار الزيتون هو جريمة بحق أنفسنا.
مسلسل رائع، وهناك الكثير مما يقال عنه.