التجييل العقدي وتأثيره في الحركة الشعرية
إن التمييز بين اتجاهين في حركة الشعر المعاصر يعني الوعي بطبيعة هذه الحركة أولا، وأن ثمة نوعاً فيها يتقاطع أو يتميز عن نوع آخر غيره ثانيا، وأن خارج هذين الاتجاهين موقف جمالي عام من العالم، يتماثل فيه المجموع الشعري برمته ثالثا. والمحصلة من هذا التمييز إمكانية التفكير في أن يكون على الخريطة الشعرية ما يشي بوجود علاقة لهذه الحركة بأخرى تسبقها، قد تكون هي امتداداً لها يختلف جزئيا أو كلياً في ما تتصوره داخلها من عضوية فنية أو حيوية مكتملة النضج. ونظرة متمعنة في التغييرات التي أحدثتها حركة الشعر الحر، والتجريب في قصيدة التفعيلة سيظهر أن التجييل عبارة عن تحولات نوعية في بنائية الشعر الموضوعية، وليس مجرد تراكم كمي ضمن زمنية تاريخية محددة.
وهوية الشاعر أيا كانت توجهاته هي هوية فنية وعلاقته بالفن مستمرة بأفق حر لا يعرف حدودا زمنية ولا أيديولوجية، وإذا أردنا ان نصنف الحركة الشعرية المعاصرة في العراق فإننا سنجد حداثتين إحداهما رائدة والأخرى تطويرية، في وقت كانت النظرية الأدبية على الصعيد العالمي تشهد تطورا اكتسح قضايا الإبداع كلها، بما فيها قضية أجناس الشعر التي لها نصيب مهم في تاريخ هذه النظرية.
وعلى الرغم من أن الحداثة التطورية لحركة الرواد الشعرية لم ترس بعد على أسس واضحة، فإن النقد العربي ما زال غير مختبر كل مسائلها الأدبية ومفاهيمها النظرية، ومنها مفهوم التجييل الأدبي، الذي ما أسفر التعامل معه إلى اليوم عن تقنين واضح يضع لهذا المفهوم تحديدات تكشف بطلان ما رسّخه نقاد عقد الستينيات وشعراؤه. وهكذا بقيت النظرة كما هي إلى التجييل العقدي كمفهوم زماني أمده عشر سنوات. وظل الغموض والتطرف والتعقيد مرافقا مسيرة الحركة الشعرية في العراق، حيث الستينيات جيل والسبعينيات جيل وهكذا. والأدهى أن الستينيات ظلت شاخصة كمرحلة جيلية ليس لها مثيل في تعقدها وغناها، فمن دخل في ركبها فاز، ومن كان خارجها أو بين بينها، خسر حتى لو كان صاحب تجربة وباع في الشعر وتجريب فريد.. والسؤال هنا لماذا لم يكن للشعراء والنقاد العرب أثر في تغيير الصورة العقدية في تجييل الشعر العراقي؟
ليست الإجابة يسيرة لأسباب تتعلق بتباين تجارب الشعراء العرب عامة، هذا إن لم يكن الناقد أو الشاعر العربي محملا أيديولوجيا بمواقف فنية تجعل رأيه مرصودا فكريا على نية التدجين والاستقطاب.. بيد أن من المهم القول إن أثر الحداثة الشامية كان كبيرا في الشعراء العراقيين، إبان الستينيات، وقد وثق عبد الرحمن الربيعي هذا التأثير في مجلة «فراديس» قائلا: «كان لنا من مجلة شعر اللبنانية خير ملاذ رغم أن الصحافة العراقية ترفضها غالبا، أو تتعامل بحذر على اعتبارها كتابة هجينة لا هي بالشعر ولا النثر، كنا أبناء جيل الستينيات نعمل متضامنين.. وكانت لقاءاتنا في مقاهي البلدية وحسن العجمي والبرلمان والبرازيلية، حوارات ساخنة.. كانت الستينيات واحدة من أغنى المراحل السياسية والثقافية التي مر بها العراق» كما ذكر شريف الربيعي أن ادونيس سأله وهو في بغداد عام 1969(عن الشعراء الجدد قلت له جليل حيدر قال: ممكن أن تأتيني بقصائده .. قدم جليل بعض قصائده إلى أدونيس ظهرت في العدد الخامس من «مواقف» 1969 تحت عنوان خرائب مشبوهة في خريطة السائح».
لا حدود فكرية بين الشعر والفلسفة، لكن الحدود الشكلية تظل قائمة، بما يتميز الشعر عن غيره ومن ثم ننظر إلى الشعر بما يميزه أي كحركة شكلية فنية وليس كفكرة أيديولوجية. وهكذا نظر هيدغر لتجربتي ريلكه وهولدرلن بوصفهما شاعرين مفكرين.
وقد عكست أعداد هذه المجلة الحداثة الأودنيسية ونشر فيها كثير من النصوص الشعرية التي توافق رؤيته للحداثة، كما أن النقاد الذين يكتبون تحليلاتهم الشعرية هم أيضا من المؤيدين لهذه الرؤية، التي هي مستقاة من تجارب الشعر العالمي الحداثية للوركا ونيرودا وريلكه وسان جون بيرس وكفافيس وغيرهم. ولعب النقد المنشور في هذه المجلة أيضا دورا في توكيد التجربة الأدونيسية وريادتها التحديث الشعري، لاسيما بعد نشر قصيدة «هذا هو اسمي» عام 1969 وكتبت عنها خالدة سعيد نقدا تناولت فيه (إيقاع الشوق والتجاذب) ومما أكدته في نقدها أن أدونيس كتب القصيدة المسرحية منذ عام 1954 مع قصيدته «الفراغ» التي جاء الجو المسرحي فيها ممثلا بتوالي اللوحات ثم في عام 1955 كتب قصيدة «مجنون بين الموتى».. إلى أن كان ديوان «المسرح والمرايا» عام 1968 فتأكد أن الشعر فكر ولا يكون الفكر شعرا إلا بشاعر هو فيلسوف وليس للفيلسوف أن يكون شاعرا لكن للشاعر أن يكون فيلسوفا وعالما ونبيا وقائدا بالشعر. لكنها تناقض قولها حول هذا الاتساع الذي يمكن للشاعر أن يكونه باستدراكها الآتي: «الشاعر متى أدخل الفلسفة أو العلم أو التعليم الأخلاقي أو الديني أو السياسي في شعره فسد شعره. الحدود إذن بين الشعر وغيره من الفاعليات رجراجة غير واضحة تماما». ولا ننكر أن لا حدود فكرية بين الشعر والفلسفة، لكن الحدود الشكلية تظل قائمة، بما يتميز الشعر عن غيره ومن ثم ننظر إلى الشعر بما يميزه أي كحركة شكلية فنية وليس كفكرة أيديولوجية. وهكذا نظر هيدغر لتجربتي ريلكه وهولدرلن بوصفهما شاعرين مفكرين. ولأن الناقد العربي ينظر في الشعر ويعمم النظر، وإن كان مختصا بشاعر واحد، تكون دراسة التجارب الشعرية خاضعة لهذين الإطارين التخصيصي والتعميمي، وفي الحالين تكون النتيجة واحدة وهو غموض مفهوم الحركة التحديثية وعدم التوحد في تعريفها.
ومثل ذلك يقال في تقييم الحركة الفنية في العراق، تشكيلا ومسرحا وسينما فهي الأخرى كانت نشيطة، لكن نقدها كان قائما على تجييل عقد الستينيات أيضا. وأغلب ما كتب كان عروضا تاريخية للمسيرة الفنية وليس نقدا فنيا يؤشر على أحقية ما في هذه التجمعات من حركة وتجديد أو لا. ومعلوم أن الرصد التاريخي للحركة الفنية والشعرية ليس كالرصد النقدي، كما أن الكشف عن روح العصر ـ التي فيها تدور تلك الحركة ـ لا يتحقق بالاصطناع والتهويل واقتفاء أثر السابقين، بل بما للتغيير من حساسية شعرية، فتُدرس التجارب دراسة شاملة تبحث في أصول الحداثة الأولى التي مثّلها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ومحمود البريكان وحسين مردان وسعدي يوسف، ثم تتبع تفرعات تلك الأصول في التجارب اللاحقة كتجربة حسب الشيخ جعفر التي تعد بينية بين مفترقي طريق عند القائلين بالجيلية، بينما هي رافد لوحدها في تطوير حركة الحداثة في الشعر العراقي.
ولا يغير في هذه الحداثة إن كان الشعراء مغتربين في لندن أو موسكو أو كانوا ساكنين في بغداد أو البصرة، فهم يظلون منشدين إلى شعرية واحدة عربية، ليس فيها خارج أو داخل مهما تباينت التوجهات والرؤى، أو تبدلت المشارب والانتماءات انقلابا وترددا وصدقا وزيفا وتأكيدا وطمسا وتنقيحا وتشويها واستعادة وخلقا واستقطابا ونبذا. إن اقتفاء أثر الحركة الشعرية وإثبات حقيقة ما فيها من تحولات وأصالة تلك التحولات يقتضي الوقوف عند شعراء عقد الستينيات ونقادها الذين مارسوا التنظير والنقد متوسلين في الغالب بالانطباعات وبكثير من البراعة والقوة، للغايتين: أولا كشف أثر سعير المناكفات النقدية على الشعراء المجايلين واللاحقين، وثانيا التصدي لنار الوعي وجليد اللامبالاة عند بعض شعراء الستينيات، ممن كانت مسألة التجييل تهمهم كالشاعر سامي مهدي، وعند من لم تكن هذه المسألة تهمهم كالناقد عبد الجبار عباس.