رحيل ملكة… قلب الإمبراطورية الأسود بوجه أبيض
أبعدت وفاة الملكة إليزابيث الثانية الحرب الأوكرانية عن عدسة الإعلام ومع التعازي ومظاهر الحزن، والتغطية الإعلامية المتواصلة، تدفق التبجيل والذكريات السعيدة عن الراحلة ممتدا من المنظور العائلي الخاص إلى السياسي العام. وتحدث كل من التقى بها من الساسة عن إلمامها السياسي الكبير بما يدور في أرجاء العالم وتفاعلها الإنساني مع الأحداث مع التزامها برمزية منصبها. وهي نقطة تثير الكثير من التساؤلات عند الاستماع إلى ذكريات الساسة البريطانيين، بضمنهم كبار المسؤولين ورؤساء الوزراء، التي تؤكد أنها كانت تتخطى حدود رمزية المنصب، بشكل غير مباشر، وغالبا عبر الثقل الذي يحمله رأيها واستنادا إلى مكانتها كممثلة لسلطة مركزية متوارثة منذ عام 827 ميلادي.
ففي مجلس اللوردات الذي كرس جلسته الأخيرة لتأبين الملكة، تحدث لورد ستيراب، عضو لجنة العلاقات الدولية والدفاع، مذكرا إيانا بأن الملكة كانت قائدة القوات المسلحة، وهو منصب قلما يتم ذكره. وأنها طالما أولت اهتمامًا كبيرًا لأنشطة القوات من الصعوبات والتحديات إلى النجاحات. مستطردا بأنه أراد التركيز على حادثة واحدة فقط جرت منذ عدة سنوات. حين كان مسؤولا عن قاعدة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، الذي قاد حرب الخليج الأولى، قائلا: « عندما بدأنا نفقد الطائرات فوق العراق، كانت الملكة على اتصال على الفور، وأرادت معرفة كيف يمكنها المساعدة، وعلى وجه الخصوص كيف يمكنها دعم العائلات. جاءت وعقدت اجتماعات خاصة مع أقرب أقارب المفقودين في العمل… وجعلتهم يفهمون مدى اهتمامها.» وهو موقف مفهوم لأي قائد عسكري يدرك مسؤوليته تجاه قواته، لكنه لا يعني وصف ما يقوم به القائد بالإنسانية الشاملة، تجاه الشعوب، أيا كانت، كما تدل رسائل التعزية المرسلة إلى المملكة ومن بينها رسائل الملوك والرؤساء العرب. فالملكة الراحلة لم تهتم إطلاقا بالعوائل العراقية التي قُتل أفرادها كانت بقصف سلاح الجو الملكي البريطاني بل بالبريطانيين فقط. الجانب الآخر المعني أكثر بتوضيح موقفها «الإنساني» من الشعوب في أرجاء العالم، هو تنصيبها توني بلير، رئيس وزراء حزب العمال السابق، كعضو في حملة «وسام الجارتر»، وهو أقدم وأعلى رتبة في منزلة الفرسان المُقربة من الملكة والمؤثرة في إنكلترا، ولا يزيد عددهم عن 24 عضوًا على قيد الحياة. وقد تأسس هذا النظام المتجذر في فكرة الفروسية في العصور الوسطى عام 1348، عندما كان الملوك يحيطون أنفسهم بأقوى حلفائهم من الطبقة الأرستقراطية. ولمن يحاجج بأن تعيين توني بلير جاء كقرار مؤسساتي لأن دور الملكة رمزي، أُذكر بأن التعيينات تتم وفقا للاختيار الشخصي للملكة ومشيئتها والأكثر من ذلك إنها تتم دون مشورة رئيس الوزراء بعد تعليبها بأنها «اعتراف بمساهمة وطنية أو خدمة عامة أو خدمة شخصية للملك»، بشكل يُراد له تجاوز مفهوم القرون الوسطى وإن بقي، في جوهره كما هو.
أبعدت وفاة الملكة إليزابيث الثانية الحرب الأوكرانية عن عدسة الإعلام ومع التعازي ومظاهر الحزن، والتغطية الإعلامية المتواصلة، تدفق التبجيل والذكريات السعيدة عن الراحلة ممتدا من المنظور العائلي الخاص إلى السياسي العام
كيف يتماشى اختيار توني بلير مع صورة الملكة الإنسانية الهائلة التي يتم تدويرها حاليا في أرجاء الكون؟ وكيف بالإمكان هضم الحزن الجماعي الشامل الذي تُرّوج له أجهزة الإعلام والمؤسسات الرسمية لشعوب ذاقت الأمرين من سياسة بريطانيا الخارجية الاستعمارية ويُنكس لها الحكام العرب الإعلام لعدة أيام؟
« تكريم توني بلير؟! يجب أن يُحاكم بسبب الكارثة في العراق». لم يكن هذا صوت العراقيين المناهضين لشن الحرب ضد العراق لتقوم الملكة بتجاهله بل واحدا من عدة عناوين رئيسية نشرتها الصحافة البريطانية عندما أعلنت الملكة عن تكريمها توني بلير. كما تجاهلت عريضة وقعها ما يزيد على المليون مواطن بريطاني (بضمنهم من أصول عربية وإسلامية) تطالب بسحب تكريمه لأنه «مجرم حرب» أدانته محاكم الضمير في حوالي 12 دولة، لمسؤوليته عن قتل مليون عراقي بشكل مباشر وغير مباشر. وكان في تقرير تشيلكوت الذي أجرته الحكومة البريطانية نفسها ما يدينه، لو تم الأخذ به، كمسؤول عن شن حرب عدوانية بالشراكة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش.
وعلى المستوى الشعبي، طالما تمتعت الملكة بحضور وصراخ الحشود حول قصرها احتفالا بالمناسبات الملكية، فكيف لم تسمع صرخة الاحتجاج العالمية المناهضة للحرب التي شارك فيها مليونا مواطن بريطاني في أكبر مسيرة احتجاجية شهدتها بريطانيا على الإطلاق، وهي الأولى من نوعها التي يتظاهر فيها الناس على حرب قبل شنها؟ ألم يُطلعها أحد على تجاهل توني بلير لصوت رعاياها المخلصين للمملكة وسلامة وأمن شعبها المناهضين، في الوقت نفسه، للحروب الإمبريالية لمعرفتهم بحجم تهديدها للسلام الداخلي والخارجي معا؟ لم اختارت الملكة ضّم توني بلير إلى حلقة النخبة من «فرسانها» متجاهلة أصوات المحتجين ضد التكريم، كما تجاهل بلير أصوات المحتجين ضد الحرب ليعيد التاريخ نفسه متعجرفا إزاء رعايا الإمبراطورية كما الشعوب التي استعمرتها الإمبراطورية؟
هل يكمن الجواب في أن ما حققه توني بلير كرئيس للوزراء من التقارب السياسي الوثيق مع أمريكا وخوضه الحرب العدوانية لتثبيت القدم الأنكلو أمريكية على الأراضي والموارد العراقية، وتحطيم الدولة وتحييد الموقف العراقي المبدئي من القضية الفلسطينية، هو في صلب الحلم الملكي باستعادة ما كان؟
وإذا كان مقياس نجاح أي حكومة هو ما تحققه من رفاه اقتصادي، فهل هناك ما هو أكثر ربحا من الصناعات المرتبطة بالحروب والاستيلاء على موارد الدول التي تنهشها الحروب والنزاعات، بأنواعها، أي ما أنجزه بلير؟
ولا يمكن استبعاد فهم تقدير الملكة لتوني بلير وتكريمه على الرغم من كونه متهما كمجرم حرب إلا بالنظر إلى نشأتها كابنة وفية لإمبراطورية انتزعت رفاهيتها من دماء الشعوب. ألم تُعّرب في بداية تنصيبها كملكة عن تقديرها «لخبرة رئيس الوزراء تشرشل وحكمته وبلاغته وكيف تتطلع إليه كدليل يساعدها على كيفية التصرف كملكة»، وهو من أكثر المتحمسين لاستخدام «أسلحة الدمار الشامل» قائلا «أنا أؤيد بشدة استخدام الغازات السامة ضد القبائل غير المتحضرة» بضمنهم الكرد في شمال العراق، ومبررا القتل الجماعي بحس نكتة إنكليزي متسائلا: «لماذا ليس من العدل أن يطلق مدفعي بريطاني قذيفة تجعل المواطن المذكور يعطس؟» واصفا موقف المعترضين «إنه حقًا سخيف للغاية».