رهائن طهران: قراءة جديدة في زمن الكاوبوي الأمريكي وبدو الخميني
في الرابع من تشرين الثاني /نوفمبر 1979، كان عدد من الطلاب الإيرانيين قد نجح في اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، واحتجاز 66 رهينة أمريكية. كان هؤلاء الطلاب قد حملوا مواد غذائية تكفيهم لثلاثة أيام، لكن أيام الاختطاف ستبلغ لاحقا 444 يوما. وعلى الرغم من أنّ هذه الأحداث جرت في ظل الثورة الإسلامية في إيران، وعلى خلفية استقبال واشنطن المؤقت للشاه المريض بورم سرطاني، لكن قراءة ما جرى في ذلك اليوم وما تلاه، ما يزال مصدر اهتمام من قبل عدد من المؤرخين والكتاب. إذ وجدوا أنّ الحادث لم يمثل حدثا أمنيا أو سياسيا حسب، بل جاء كتعبير عن عالم السبعينيات، وبمثابة «سنة الانقلاب الكبير» وفق تعبير أمين معلوف، الذي كان على متن الطائرة ذاتها التي حملت الخميني من فرنسا إلى طهران. المغامرة التي قام بها عدد من الطلاب الثوريين الإيرانيين، فتحت الأبواب لظهور ريغان الكوبوي، والخميني القادم من القرن الهجري الأول.
ويشكل كتاب المؤرخ الأمريكي ديفيد فاربر «رهائن طهران» ترجمة محمد العربي، والصادر قبل أيام قليلة عن دار جداول للنشر، قراءة جديدة لتلك الأحداث وخلفياتها، من خلال إخراجها من نطاق التاريخ الضيق، لصالح البحث في وجوه الأزمة الاقتصادية والثقافية. والمؤلف هو مؤرّخ في جامعة شيكاغو، وله كتب عديدة حول المظاهر الاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال الاعتماد على العشرات من الوثائق المتعلقة بالرهائن في طهران، سيحاول فهم لحظة المواجهة الكبرى الأولى بين الإسلام الراديكالي وأمريكا، وبصفتها تمثّل ذروة التحولات الاجتماعية والثقافية في المجتمعين الأمريكي والإيراني.
أمريكا السبعينيات
في عقد السبعينيات، غالبا ما شعر الأمريكيون بأنهم لم يواجهوا إلا خيارات سيئة. فلم تكن السنوات الأخيرة في السبعينيات إلا أوقاتا عصيبة، عبرت عن نفسها عبر عناوين يائسة: ارتفاع التضخم، وانخفاض التشغيل، وخروج أسعار البترول عن السيطرة، وانهيار صناعة السيارات الأمريكية، وارتفاع نسب الزواج. وكانت هناك حاجة لدعم صناعة الصلب المحتضرة في أمريكا. وحاول الناس جاهدين بيع منازلهم كي يبدأوا من جديد في أماكن أخرى، لكن لم يكن هناك من مشترين. وحتى في ولاية تكساس المنتجة للنفط، ألقت الريبة ونوع ما من التشاؤم حول المستقبل الاقتصادي بظلاله على معظم الأسر الأمريكية، وكانت أمريكا في طور التحول إلى أمة من نوع آخر.
وفي موازاة هذا الظهور لكارتر، البطل، لن تمر سوى فترة قصيرة، حتى كانت أوبك تطالب برفع الأسعار. انعكس الأمر على شعبيته. وقبل وصوله للحكم، كان خمسة وثلاثون من رجال أعمال أمريكيين قد وصلوا إلى إيران في السبعينيات، للحصول على فرص للاستثمار في إيران.
وقد ترافق هذا التطور مع أزمة البترول الأولى في تشرين الأول/أكتوبر 1973، ما جعل الأمريكيين ينتظرون ساعات أمام محطات الوقود، ويقبلون على شراء السيارات اليابانية ذات الاستهلاك القليل. كما ترافق ذلك مع تمرير قانون الطوارئ للحفاظ على الطاقة في الطرق السريعة عام 1974، القانون الذي حدّد أقصى سرعة على الطريق السريعة الوطنية بـ55 ميلا في الساعة. وفي ظل هذه الظروف، ظهور الرئيس جيمي كارتر (1977ـ1981) بمثابة المصلح والمخلص من العطب الأمريكي، خاصة أنه بدا يتمتع بفضائل مثل الأمانة، وهذا ما كان يحتاجه الأمريكيون آنذاك، أكثر من إلمامه بموضوع المهارات في السياسة الخارجية، ولذلك نرى كارتر مدركا لهذا الجانب من خلال مراسم تعيينه، إذ رفض استقلال سيارة الليموزين الفارهة، ومشى على قدميه في جادة بنسلفانيا إلى جانب زوجته وابنته وحيّوا الحشود التي اصطفت على جانبي الطريق بسعادة.
الشاه والخميني
وفي موازاة هذا الظهور لكارتر، البطل، لن تمر سوى فترة قصيرة، حتى كانت أوبك تطالب برفع الأسعار. انعكس الأمر على شعبيته. وقبل وصوله للحكم، كان خمسة وثلاثون من رجال أعمال أمريكيين قد وصلوا إلى إيران في السبعينيات، للحصول على فرص للاستثمار في إيران. وعلى الرغم من الترحيب المبالغ فيه من قبل الشاه، إلا أنّ الوطنيين في إيران اعتبروا أنّها مساع أمريكية للسيطرة على اقتصادهم. وهذا الحدث، بالإضافة إلى ما جرى في أحداث 1953 مع محمد مصدق، أخذ يوسع، حسب المؤرخ فاربر، من مخيال النخب الإيرانية حيال أمريكا، بوصفها القوة الخارجية التي تتدخل وتفعل ما تشاء، دون أي اعتبار لرغبات أو حتى رفاهية الشعب الإيراني، وسيغدو هذا المخيال أكثر راديكالية من خلال وصف أمريكا مع الخميني بـ»الشيطان الأكبر». ولعل ما كان يدعم هذا التوجه أنّ العالم النامي في عقدي الستينيات والسبعينيات، أخذ يدين دور الولايات المتحدة في السيطرة على قوتها وثروتها، لكن ما يلاحظه المؤرخ هنا أنّ السياسات الأمريكية تجاه طهران خلال الستينيات والسبعينيات، لم تكن براغماتية حسب، بل نرى خلافا واسعا بين المسؤولين حيال الشاه. ففي عام 1961، وبعد اندلاع اضطرابات سياسية عنيفة، حثّ الأمريكيون (إدارة كيندي) على ضرورة احتواء الاحتجاجات. كما أنّ الشاه، لم يكن رجلا ديكتاتوريا فقط، بل نراه يطلق «ثورته البيضاء» من خلال قوانين الإصلاح الزراعي، ومشاركة الأرباح الصناعية بالنسبة للفقراء من سكان الحضر، ومنح المرأة حق الاقتراع، ما جلب له تأييدا عظيما من قبل الشارع، ومعارضة واسعة من قبل القوى الدينية التقليدية.
هاجم الخميني هذه التوجهات، وخرج آلاف المتظاهرين، لكن الوقت آنذاك لم يكن قد حان للثورة، كما أنّ الشارع بدا منقسما بين إصلاحات الشاه/والتقليديين، ولذلك سيغيّر الخميني من استراتيجياته قليلا، خاصة في ظل التقارب الاستخباراتي الأمريكي ـ الإيراني، وبدلا من مهاجمة الشاه، أخذ يدعو إلى النضال ضد أمريكا، إذ رأى أنّ تحالف الشاه مع الولايات المتحدة، يمثّل نقطة ضعف يمكن أن يستغلّها كي يوحّد التنظيمات الإيرانية المشتّتة.
عودة الدين في واشنطن وطهران
ويرى المؤلف، أنه خلال السبعينيات كان الآلاف من الإيرانيين يتحولون من العلمانية والتحديث، نحو تقاليدهم الدينية بحثا عن إجابات لمعضلات حياتهم. والمفارقة أنّ الظاهرة نفسها كانت تحدث في أمريكا، فقد أخذ الملايين من الأمريكيين يتحوّلون عن المسيحية المخففة أو العلمانية الإلحادية، ويتبنون شكلا آخر من المسيحية الأصولية والإنجيلية التقليدية. ويبدو هذا الظهور الإسلامي من خلال المذكرات التي نشرتها معصومة ابتكار (ترجمت للعربية بعنوان «صراع في طهران») أحد من اقتحموا السفارة الأمريكية في طهران، وقاموا بحراسة الرهائن. فقد عاشت طفولتها في الولايات المتحدة، وعندما عادت إلى طهران كانت لغتها الإنكليزية أفضل من لغتها الفارسية، فالتحقت بالمدارس الأمريكية في إيران. وخلال المرحلة الجامعية أخذت تتأثر بأفكار جان بول سارتر والبير كامو حول الوجودية وظلام العالم والريبة الأخلاقية للفكر الحديث. وستقودها عملية البحث الفكري لاحقا إلى محاضرات علي شريعتي في شمال طهران، التي تحدث فيها عن الإسلام بوصفه بناء من الأفكار الثورية والتحررية التي تناصر الديمقراطية والمساواتية. ومن هنا أخذت الفتاة تعتقد أنّ الإسلام يحمل بدائل عن أيديولوجيا الحتمية واليأس التي نبعت في الغرب (وما أشبه هذه اللحظة بلحظة الإقبال على الفكر الجهادي بعد عام 2010).
طلاب ثائرون في السفارة الأمريكية
في الوقت الذي كانت فيه المخابرات المركزية الأمريكية ترسل تقريرا إلى كارتر مفاده «إيران ليست في حالة ثورية، أو حتى قبل ثورية» كان وزير الخارجية يحضّ رئيسه على ضرورة الانفتاح على الخميني. وهذا ما اعتبره البعض بمثابة رأي هستيري. وخلال أربع وعشرين ساعة من عودة الخميني، تلقى كارتر ورقة منفصلة تشرح تاريخ الانقسام المذهبي الإسلامي، مع ذلك لم يتوقع التقرير أن يتمكن رجال الدين من تأسيس نظام سياسي، ولذلك استمرت السفارة الأمريكية في العمل وسط حالة من البلبلة، والشعور الأمريكي بأن الفريق الليبرالي (مهدي بازركان والجيش) سيربح مرة أخرى، وربما لهذه القناعة، بالإضافة إلى بعض العلاقات الشخصية، سيوافق كارتر، بعد رفض، استقبال الشاه، مما ستكون له تداعيات كبيرة، لن يتوقعها أشد المتشائمين.
في الوقت الذي كانت فيه المخابرات المركزية الأمريكية ترسل تقريرا إلى كارتر مفاده «إيران ليست في حالة ثورية، أو حتى قبل ثورية» كان وزير الخارجية يحضّ رئيسه على ضرورة الانفتاح على الخميني. وهذا ما اعتبره البعض بمثابة رأي هستيري.
في هذه الأثناء، وهنا ربما يكمن الجديد والمهم في الكتاب، سيجتمع الآلاف أمام السفارة الأمريكية هاتفين الموت لأمريكا، ولم يكن هناك أي عنف، إذ لم يحاولوا القفز على الأسوار أو القيام بأي شيء، لكن الأمور كان تغلي في مكان آخر من طهران، فقد عقد عدد من الطلاب الإسلاميين اجتماعا بقيادة طالب في الهندسة المدنية يدعى محسن، وشرعوا في وضع خطة لاحتلال السفارة سلميا بلا أسلحة، وقرروا في خطة الاقتحام إحضار إمدادات تكفي لاحتلال يدوم لثلاثة أيام فقط (استمرت 444 يوما). وحاولوا، كما يذكر المؤلف، إبلاغ الخميني بذلك، لكن رسالتهم لم تصل. بيد أنّ ما جعلهم يقررون المضي في هذا القرار، دعوة الخميني الطلاب لمزيد من المظاهرات لإجبار أمريكا على تسليم الشاه. وهذا ما اعتبره الطلاب بمثابة موافقة ضمنية، وأطلقوا على أنفسهم اسم «الطلاب المسلمين التابعين لخط الإمام» في حين يبدو مؤلف الكتاب ميالا إلى أنّ الخميني لم يكن في باله هذا السيناريو، وأنه حتى الطلاب لم يتوقعوا أن يجدوا أنفسهم وسط صراع قوى معقد للغاية وفوضوي. وقد بدا، في هذا الصراع، أنّ لمغامرتهم الصغيرة وزنا كبيرا، إذ سرعان ما تلقى مؤيدو الخميني الحادثة لبناء سردية وطنية جديدة عن تقرير المصير. كما أدرك الخميني أهمية هذه اللحظة، وأيّد الاستيلاء على السفارة، لأنه بذلك كان قادرا على كسب تأييد المنظمات اليسارية الثورية، بوصفه معاديا للإمبريالية، فكان ينظر لهذه الحادثة من خلال أولويات السياسة الداخلية.
لكن الجديد أيضا، أنّ الشارع الأمريكي المهووس بالتضخّم وقضايا الاقتصاد، لن يقف مكتوف اليدين، بل سيتدخل جراء التغطية الإعلامية، وهذا ما ظهر من خلال الهجوم على أي شخص في أمريكا، تبدو عليه ملامح إيرانية. كما اذيعت عشرات الأغاني التي تتحدث عن الأزمة، ومن بينها أغنية «اذهب إلى الجحيم يا آية الله». وبالنسبة للمؤلف، فإنّ هذا النوع من الإحساس قد خلق نوعا من «الجغرافية الأخلاقية» التي تدعم «القومية الأمريكية التوسعية». ومن ثم، كانت أحداث الرهائن والتغطية الإعلامية قد ساعدت على إقناع الأمريكيين بأن يروا أنفسهم كضحايا لـ«إرهابيين» يكرهونهم، بدلا من ربطها بالسياسات الأمريكية.
واللافت للنظر، أنّ بعض الخاطفين الإيرانيين بدوا مدركين لحساسيات الداخل الأمريكي، ولذلك نراهم يقررون الإفراج عن بعض المخطوفين السود، للربط بين نضالهم في أمريكا، ونضال شرائح إيرانية واسعة (تضامن عابر للحدود). والمهم أيضا أنّ هذه الأزمة، ستترافق مع غزو السوفييت لأفغانستان، واستمرار التضخم، ما زاد من شعور الأمريكيين بكونهم عاجزين عن التصرف، ولذلك يرى المؤلف أنّ أزمة الرهائن في طهران كانت تعكس التغيرات الهائلة في الحياة الأمريكية التي جعلت من عقد السبعينيات عقدا غير مريح. وبالتالي سيقرر الأمريكيون أنّ الوقت قد حان كي يجربوا رجلا يعرف على الأقل القيام بدور الكاوبوي، وهذا ما وجدوه مع ريغان الممثل، الذي هزم كارتر بفارق كبير في الانتخابات. ويبدو أنّ معادلة الكاوبوي الأمريكي/البدوي الإيراني العابر للحدود (أو الذي يمارسون البداوة الجهادية وفق تعبير أوليفيه روا) هي التي ستبقى تحكم هذه العلاقة من تلك الأيام إلى يومنا هذا…