مستقبل الملكية في بريطانيا بعد رحيل إليزابيث الثانية
تزامنا مع الصمت الذي أطبق على شوارع مدن المملكة المتحدة أثناء مرور نعش الملكة إليزابيث الثانية، وتلويح طوابير المودعين التي امتدت لأميال في المدن التي مرت بها قافلة النعش، طرحت وبقوة مجموعة تساؤلات عن امكانية استمرار النظام الملكي في بريطانيا، وامكانية التحول إلى نظام جمهوري بعد تاريخ ملكي عاشته الأمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس على مدى مئات السنين. وقد تمحورت الأسئلة حول دور النظام الملكي في مستقبل بريطانيا. للإجابة على ذلك، من المهم أولا تحديد ما هو بالضبط دور الملك في بريطانيا اليوم، ثم دراسة ما إذا كان وجود النظام الملكي ضروريا لأداء هذا الدور، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض التحديات مثل الكلفة الاقتصادية التي يتحملها دافع الضرائب لدعم هذا النظام. ثم هناك تساؤل مطروح وبقوة عن فائدة النظام الملكي، وهل يمكن تخيل بريطانيا بدون ملك؟
يقول الخبير الدستوري اللورد بيتر هينيسي: «لم تعد الملكية تدور، كما كان الحال في القرون الوسطى، حول صراع الفرسان بدروعهم الفولاذية. أنها اليوم ملكية رفاهية، إذ بات الأمر متعلقا بالإمساك بمقص لقص الشريط عند افتتاح بعض المشاريع الجديدة، أو حضور حفلات تكريم الأشخاص الذين يحتاجون إلى الدعم والتنشيط. والعائلة المالكة البريطانية كلها جيدة في ذلك».
لكن أصوات المطالبين بالجمهورية في بريطانيا ارتفعت مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية، وحسب المتحدث باسم منظمة «الجمهورية» غراهام سميث، فإن رحيل إليزابيث الثانية سيتبعه تراجع كبير في شعبية العائلة المالكة، وزيادة عدد الراغبين في التحول إلى النظام الجمهوري في المملكة المتحدة والدول التابعة للتاج. وبعد سنوات من عملها، تضم منظمة «الجمهورية» اليوم نحو 80 ألف عضو، وهذا الرقم يكاد لا يذكر مقارنة بالحشود التي ملأت الشوارع في مدن المملكة المتحدة منذ أيام لوداع الملكة، والاحتفال بتسنم الملك تشارلز الثالث العرش.
يقول الكاتب جيمس ويليامز في مقال له عن مستقبل الملكية في بريطانيا في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية: «إن وظيفة الملك المتمثلة في التوقيع على القوانين التي يقرها البرلمان هي جزء لا يتجزأ من العملية التشريعية، كما يحتفظ ملك بريطانيا من الناحية الفنية بالحق في نقض أي إجراء يتبناه البرلمان، لكن هذا الأمر بات نادر الحدوث، وكانت آخر مرة تم استخدامه فيها في القرن الثامن عشر من قبل الملكة آن. كما يستقبل الملك السفراء المعينين في المملكة المتحدة، وهو أيضا القائد العام للقوات المسلحة ويجب على المجندين الجدد أداء قسم الولاء للعاهل» ويضيف ويليامز «في هذه الوظيفة يعمل الملك باعتباره تجسيدا حيا للدولة البريطانية، وهو نوع من الاختزال يمكن للناس من خلاله أن يقسموا بالولاء للدولة، التي هي بناء اجتماعي، من خلال شخص حي. في حين تم نقل غالبية سلطات الملك إلى رئيس الحكومة لاستخدامها وفقا لتقديره وبمشورة الملك».
ويرد جيمس ويليامز على الأطروحة القائلة أن الملك في المملكة المتحدة يُنظر إليه بطريقة ما على أنه جزء تشريفاتي من الهيكل الدستوري للمملكة المتحدة، بقوله «إن الإيحاء بأن الملك ليس لديه تدخل مباشر في عملية صنع القرار في بريطانيا غير دقيق. إذ تشير المشاركة السياسية النشطة خلال القرن التاسع عشر للملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت، والاهتمام النشط الذي أبدته الملكة إليزابيث الثانية في علاقات الكومنولث، إلى الطرق التي يمكن بها للملك أن يؤثر على القرارات المتخذة في داوننغ ستريت، حيث مقر رئيس الحكومة، بطريقة أكثر تعقيدا من اعتباره مواطنا بريطانيا يملك ولا يحكم».
ويرى بعض المراقبين أن انتقال التاج من الملكة الأم إلى ابنها الملك تشارلز الثالث، لن يحمل تغيرات في واقع الأسرة الملكية، والإطار الدستوري الذي يحدد واجباتها وحقوقها داخل المملكة المتحدة، لكن تجدر الإشارة إلى أن تشارلز الثالث لطالما ظهر عندما كان وليا للعهد بشكل مرتبك، وحتى عفا عليه الزمن، كما لو كان أكبر سنا من والدته، وأن حماسته لم تكن منبعثة من شعبية يعتمد عليها، ويرى بعض المراقبين أن طريقة تشارلز في إبداء آرائه التي كان يعرب عنها بحرية عندما كان وليا للعهد لم تعد مناسبة ولا تتسق مع متابعة واجبه الدستوري في تقديم المشورة لرئيس وزرائه بشكل فعال مثلما كانت تفعل والدته، بحيادها الدؤوب وإتقانها للحاجب المرتفع.
لكن من جانب آخر نجد الملك تشارلز الثالث ذكيا، ومجتهدا، وإيثاريا، ومثاليا. وكل شيء يوحي بأن زواجه الثاني بات يعد عامل استقرار بعد أن تم الترحيب بزوجته أميرة ويلز السابقة كاميلا في إطار العائلة المالكة حيث أصبحت اليوم ملكة إلى جوار زوجها. لكن لا يزال يتعين على الملك تشارلز التعامل مع أفراد الأسرة «الاشكاليين» ومنهم اخوه أندرو، الذي تلطخت سمعته بفضيحة الادعاءات الجنسية، وابنه هاري وزوجته ميغان، اللذان غادرا العائلة المالكة، وباتا يعطيان انطباعا وكأنهما أصبحا جمهوريين.
ثروة الملكة
تشير صحيفة «صنداي تايمز» إلى إن ثروة الملكة الراحلة بلغت 370 مليون جنيه إسترليني عام 2022 وبعد وفاتها حصل الملك تشارلز الثالث على الثروة كاملة دون الحاجة إلى دفع ضريبة الميراث وفقا لقانون أقره البرلمان عام 1993 لمنع تفتت إرث وأموال الأسرة الملكية. من الطبيعي إذن أن تعود النقاشات الجمهورية القديمة حول كلفة وجود النظام الملكي. إذ يشير مجلس تحرير بلومبرغ، إلى أنه على الرغم من كل التحديث الذي قامت به الملكة إليزابيث الثانية، إلا أنها فشلت في تقليص الامتيازات التي تتمتع بها العائلة المالكة. ومع وصول الملك تشارلز الثالث إلى العرش، عادت الأسئلة تطرح حول كلفة العائلة المالكة على خزينة الدولة ودافعي الضرائب، وحسب الأرقام الرسمية في آخر سنة من حكم الملكة إليزابيث الثانية، بلغت فاتورة العائلة المالكة الممولة من ضرائب البريطانيين بين عامي 2020 و2021 حوالي 86 مليون جنيه إسترليني، وهذا يعني أن مساهمة الفرد البريطاني في دفع هذه الفاتورة تقدر بنحو جنيه ونصف تقريبا. لذلك يرى بعض الباحثين أن هذا الأمر لم يعد يشكل دافعا للتمرد أو عامل رفض لوجود العائلة الملكية.
ويرى المراقبون أن هناك قلقا اسكتلنديا طويل الأمد، وإذا تمت ترجمته إلى استقلال، فمن المرجح أن يتم بكياسة جليدية، إن لم يكن بكثير من حسن النية. وكذلك هناك التنين النائم في أيرلندا الشمالية الذي يثير القلق أيضا، فالأزمة لم تعد تتعلق بالبروتوكول المنظم لانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وشروطه التي فرضها على شكل الحدود بين طرفي جزيرة أيرلندا، وستكشف أرقام التعداد الوشيكة ما إذا كان السكان الكاثوليك في أيرلندا الشمالية قد تجاوزوا أخيرا البروتستانت، ما يعني إمكانية إجراء استفتاء على انضمام المقاطعة إلى جمهورية أيرلندا، الأمر الذي يثير العديد من التكهنات المحتملة بما في ذلك العودة إلى العنف في أيرلندا. وهنا يشير بعض المتشائمين إلى أن الملك تشارلز الثالث قد يتحول قريبا إلى ملك انكلترا وويلز فقط، وهذه ستكون هي التركة المجحفة التي سينقلها إلى ولي عهده الأمير وليام.
في عام 1998 ناقشت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية ومجموعة «الطريق إلى الأمام» الإصلاحات المحتملة للنظام الملكي في محاولة منها لمواجهة تحديات رد فعل الجمهور على وفاة الأميرة ديانا الاشكالية في آب/أغسطس 1997 وتضمنت الخطط تقليص الألقاب الملكية واستحقاق لقب صاحب السمو الملكي ليقتصر على الملك وولي عهده، وقد مثلت هذه الخطة خطوة جريئة في التخطيط لتغييرات رئيسية لم تنفذ جميعها لتطوير النظام الملكي البريطاني. ومن المعروف أن بريطانيا دولة لا تمتلك دستورا مكتوبا، وبالتالي يعتمد الأمر على ما يسمى «نظرية الفصل الجيد» والتي يفهم فيها الملك ورئيس وزرائه حدود سلطتيهما ويتصرفان وفقا لذلك. لذلك يرى المراقبون أن الملك تشارلز الثالث، بعد أطول فترة تدريب مهني في التاريخ عارف اليوم بأدق التفاصيل لدرجة أنه لن يفشل.
اليوم يرى أكثر من 60 في المئة من البريطانيين، حسب استطلاعات الرأي، أن الحفاظ على القيمة الرمزية للعائلة المالكة أمر مهم، وضمان أن تظل المؤسسة قابلة للعيش جزء من تحدي الملك الجديد، في وقت تبدو فيه الملكيات وامتيازات الوراثة أمرا عفا عليها الزمن. قد لا تعمل التقاليد الملكية مرة أخرى كما كانت في ظل الملكة إليزابيث الثانية، لكن هذه التقاليد من وجهة نظر البريطانيين تمثل أفضل أمل في الاستمرار في توفير الكرامة والاستقرار والشعور بقيمة الذات في المملكة المتحدة، لذلك سمعناهم يهتفون باعلى أصواتهم «ليحفظ الله الملك».