العراق يُسبب الصداع للحكومة البريطانية
إذا كانت الإدارة الأمريكية تكتفي، بين الحين والآخر، بالتعبير عن قلقها إزاء ما يجري في العراق من أحداث تكاد تفكك البلد، فإن الحكومة البريطانية لا تختلف عنها كثيرا بل تسايرها، كتفا بكتف، حسب تعبير رئيس وزرائها السابق أثناء الإعداد لشن الحرب العدوانية عام 2003.
ويلازم تعبير القلق، وما يلازمه من صداع، الحكومة البريطانية مهما كان الحزب الحاكم وعلى الرغم من الضجة الإعلامية الكبيرة التي صاحبت توقيعها اتفاقية التعاون الاستراتيجي، منتصف العام الماضي، الملزمة للجانب البريطاني بما هو أكثر من إبداء القلق إن لم تعمل على تطبيق بنود معينة على حساب بنود أخرى وفق مصلحتها، بناء على منظور طرحه تقرير أخير للبنك الدولي يشخص فيه «الخصائص الثلاث التي تكمن وراء مآزق العراق: حكمه السيئ، والاعتماد على الثروة النفطية، والتنوع العرقي والإقليمي».
ويفترض أن مزيج الثروة النفطية و«التفتت العرقي والديني» أدى إلى الصراع والعنف والهشاشة. وهو منظور يوفر للحكومة البريطانية صك الغفران عما ارتكبته والإدارة الامريكية من جرائم وتخريب متعمد ومأسسة الفساد بالإضافة إلى المحاصصة الطائفية والعرقية، ومن خلال إلقاء اللوم الكلي على أهل البلد أنفسهم وكأنهم يعيشون في ظروف مختبرية نموذجية بلا مؤثرات ومصالح خارجية مهما كان حجمها، فكيف إذا كان المؤثر الخارجي غزوا واحتلالا تم التخطيط له على مدى عقود؟
أبدت الحكومة البريطانية «قلقها» أخيرا، في إجابة لسؤال طرحه وزير الدولة للدفاع في حكومة الظل على وزير الخارجية للدفاع، نهاية الشهر الماضي، عن ماهية المناقشات التي أجراها مع نظيره العراقي حول المصالح الأمنية للمملكة المتحدة في العراق منذ يونيو/ حزيران 2022، مشيرا بذلك إلى أحد جوانب الاتفاقية. وهو جواب يستحق المتابعة لأنه يساعدنا على الفهم بعيدا عن آنية التصريحات المتبادلة بين ساسة ما بعد الانتخابات العراقية. أجاب الوزير أن الحكومة البريطانية تُبقي الاستقرار الداخلي العراقي قيد المراجعة المنتظمة، وأن الأجواء وإن هدأت قليلا إلا أنها لاتزال متوترة في وسط وجنوب العراق ويمكن أن تُسبب مزيدا من الاحتجاجات.
مكتفيا بذلك، لجأ الوزير إلى المشجب الذي يتم تعليق كل ما يجري من أحداث وجرائم عليه، وهو مكافحة الإرهاب المتمثل، منذ عام 2014، بمنظمة داعش ومن قبله بتنظيم القاعدة أو كل ما ترغب أمريكا بوصمه بالإرهاب.
إذ بقي وسم «الإرهاب» مطاطيا وصالحا لكل تبريرات التدخل في شؤون الدول الداخلية وتصفية الخصوم بمختلف الطرق. وأكثر أسلحة التصفيات شيوعا حاليا هو الطائرات بلا طيار. لذلك كان من الطبيعي أن يؤكد الوزير التزام المملكة بمهمة مكافحة داعش «والعمل جنبًا إلى جنب مع التحالف الدولي» بناءً على الطلب المستمر من حكومة العراق، آملين « أن يجد العراق حلاً سلميًا ومستدامًا للمأزق السياسي الحالي وأن تستمر الحكومة العراقية في دعم هذا العمل الحيوي لضمان الهزيمة الدائمة لداعش».
أمان واستقرار الشعب العراقي ليس استراتيجية بريطانية أو أمريكية، بل هو الاستراتيجية التي يجب أن نعمل على تحقيقها بأنفسنا ونحن ننظف دارنا من الفساد
وتأتي إجابة الوزير متماشية مع البيان الذي ألقته نائبة المنسق السياسي للمملكة المتحدة في الأمم المتحدة، في جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن مكافحة الإرهاب في 9 أغسطس 2022. دعمت فيه النائبة السياسة الأمريكية في التدخل الإمبريالي والاستهانة بمفهوم السيادة في كل مكان في العالم، بضمنه العراق قائلة «لدينا جميعًا مصلحة مشتركة في استخدام كل رافعة في حوزتنا لمواجهة تنظيم القاعدة وداعش والجماعات الإرهابية الأخرى. وعلى الرغم من هزيمته على الأرض والعمليات الناجحة الأخيرة ضد قيادته، لا يزال تنظيم داعش يمثل تهديدًا خطيرًا في العراق وسوريا، معقله الاستراتيجي».
يتفق الساسة العراقيون مع الخطاب البريطاني في محاربة داعش، فهم أيضا بحاجة إلى عدو مستديم.
إلا أن تصريحاتهم الإعلامية تمنح معاهدة التعاون الاستراتيجي وجها برتوش تجميلية تُساعد على تمرير الادعاءات البريطانية حول تغطية الاتفاقية جوانب أخرى مثل «الاقتصاد والتعليم والثقافة وتنفيذ القانون والتعاون القضائي وحقوق الإنسان» حسب وزارة الخارجية العراقية. كما تضم الاتفاقية، في ديباجتها، رسالة لو تم تطبيقها لاحتل الشعب العراقي المرتبة الأولى في مقاييس الاستقرار والنزاهة والعدالة والديمقراطية، ولما كان منحدرا إلى أسفل القوائم الدولية. حيث تنص الديباجة على أن السبب الرئيسي لتوقيع الاتفاقية هو «الأهمية التي يوليها الطرفان لأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، واحترام حقوق الإنسان، والمبادئ الديمقراطية والحريات السياسية والاقتصادية التي تشكل أساس الشراكة بين البلدين».
ولم تهمل ذكر « دعم جهود العراق لمواصلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وكذلك في تحسين الظروف المعيشية للفئات الفقيرة والمحرومة من السكان». وهي إصلاحات لو تم تطبيقها فعلا بين (الشركاء) لتمكنت بريطانيا وأمريكا من معالجة « قلقها» والقضاء على الإرهاب، مهما كانت طبيعته، فضلا عن تخلصها من عقدة الرجل الأبيض تجاه دمقرطة «السكان المحليين». وهذا ما لن يحدث فالعلاقة بين بريطانيا والعراق، في السنوات الأخيرة التالية لتقليص الوجود العسكري، وغايته تقليل التكلفة المادية وحماية حياة القوات البريطانية، ستبقى عند إزاحة غطاء « مكافحة داعش» عن السطح، كما كانت في العقود السابقة للغزو. هدفها إبقاء العراق، بوضعه الحالي، بكل مآسيه وتناقضاته وحالة الاقتتال المستهلكة لقوى شعبه، لأنه الوضع الأفضل للسيطرة على مصدر الطاقة.
«بالطبع يتعلق الأمر بالنفط؛ لا يمكننا إنكار ذلك حقًا»، كما قال الجنرال جون أبي زيد، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية والعمليات العسكرية في العراق، في عام 2007. وليس النفط هو السبب الوحيد لشن الحرب، فقد شملت طبخة « التحرير وبناء الديمقراطية» تأمين سلامة الكيان الصهيوني، وانعكست بقوة على فتح الأبواب أمام تهافت الحكومات العربية على توقيع الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني فضلا عن صفقات السلاح وعقود الفساد الخيالية لـ «إعمار» ما قامت بريطانيا وأمريكا بتهديمه. هذه الحقائق قد يُنسينا إياها الانخراط اليومي في تفاصيل الوضع السياسي بكل صراعاته الحقيقية والمفتعلة، ومن مختلف القوى والدول بضمنها « الشركاء». ولعل اقترابنا من الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة تشرين/ أكتوبر وتكلفتها الغالية من حياة الشهداء، سيُذكرنا بأن أمان واستقرار الشعب العراقي ليس استراتيجية بريطانية أو أمريكية، بل هو الاستراتيجية التي يجب أن نعمل على تحقيقها بأنفسنا ونحن ننظف دارنا من الفساد.