صورة الشيوعي الهويدراوي محمد الدفاعي .
محمد السعدي
في عام ١٩٦٣ وتحديدا شهر شباط وماتبعها تباعاً من سنوات قاحلة في الخوف والدكتاتورية ، في تلك الحقبة لم تغب عن بالي ، وأنا طفلا ً ندب أمي ببختها العاثر وحزنها الشديد وحديثها اليومي مع الراحل أبي عن ما أصابنا من مصاب باعدام خالي الشيوعي خزعل السعدي .. وشلون صار ؟. ولماذا لم نحاول في إنقاذه من براثن الانقلابيين والقتلة ؟. هكذا يولولون مع حالهم ويندبون حظهم ليل نهار وسط واحة بيتنا العتيق تحت شجرة الرمان الباسقة .
هنا طرق سمعي للمرة الاولى أسم الشيوعي محمد الدفاعي ( أبو قاسم ) ، وكيف أستطاع أن ينجوا منهم بعد محاولة إعتقاله والهروب الى إيران . الراحلة أمي كانت تمني على نفسها ، وتتمنى لو كان أخوها خزعل قد نجا من الموت وعبر حدود الوطن .
حديث أهل القرية حول بطولة الشخصية الشيوعية محمد الدفاعي حديث يومي مفعماً بالبطولة مما تحولت في بعض تفاصيلها الى إسطورة ودراما حياتية ، وأنا أتلقى يومياً في البيت وفي دوكان أبي الصغير في القرية مع صحبه محور هذا الحديث وتداعياته في ذاكرة الناس .
وبعد أن تلحلحت الامور قليلا بأتجاه التهدئه بازالة بقع الدم المنثورة على جدران المعتقلات ” قصر النهاية ” أثر إنقلاب 8 شباط 1963 .
ومؤشرات صراعاً دموياً يحتدم بين أقطاب الساسة الجدد حول سجة قطارهم الامريكي وفي خضم تلك الصراعات الداخلية حول كرسي الحكم تنفس الشيوعيين الصعداء ، وبدأوا باعادة صفوفهم المتناثرة من خلال عودة كوادرهم التي نجت من بطش الانقلابيين . ربما كانت فرصتهم الآخيرة في القفز على كرسي الحكم .
عاد المناضل الشيوعي محمد الدفاعي من إيران الى مسقط رأسه قرية الهويدر ، وتقاطر القرويين أفواج أفواجاً الى بيته للتهنئة وشد على موقفه في زنكة القلعة على ضفة نهر ديالى .
رافقت الراحلين أمي وأبي في زيارتهم الى بيته ، وكان مزدحماً بالزائرين والرفاق ، مستذكراً بمرارة وألم عن ما أصاب الشهيد خزعل من أذى في أستشهاده البطولي ومقاومة الكاظمية .
في الوهلة الاولى وجدت هذا الشيوعي بلقائي الاول معه ، يستحق وبجدارة عن مانسج حوله من حكايات وصور وأفكار من خلال تواضعه وبساطة كلامه وإيمانه المطلق بعدالة قضية شعبه ، ومن خلال تلك السجايا والمواقف بات مرجعاً تاريخياً لشيوعي القرية ليس فقط فكرياً وإنما أجتماعياً وأنسانيا ً، كنت أصغي لاحاديثه حول معاني النضال والعلاقة بالجماهير ولا تخلوا تلك الاحاديث من طرائف حول وصوله الى طهران والمكوث بها . في يومها فتح الشوعيين فكرة الحوار مع البعثيين لاقامة مشروع ميثاق العمل الوطني ( جبهة وطنية وقومية تقدمية ) . كان الرجل صريحاً جداً مع كل جلاسه ومستمعيه على تخوت قرية الهويدر معارضاً لها جملة وتفصيلاً مما زاد من فضولي لمتابعة أحاديثه ، وأنا ما زلت لم أتمكن من الحبو بممرات السياسة الضيقة والخانقة ، لكني فهمتها نوع من الثأر والانتقام عن مجازر ما حدث ، مما تركت معاني في نفسي وحفزتني على تقصي الحقائق والتعبير عن وجهة نظري بلا خوف ولا تردد .
في المساء طاولته عامرة على حدائق نقابة المعلمين في مدينة بعقوبة وسط صحبه ورفاقه ، الكل يتطلع أن يسمع أبو قاسم في حوارته الصريحه وتحليلاته السياسية الصريحة مما أزعج المتربصين حوله ، فدبر له البعثيين مكيده أدت به الى المحاكم بتهمة تنظيم شيوعي داخل قوات الجيش بعدما حذر الشيوعيين من ممارسته ضمن بنود توقيع ميثاق العمل الوطني المذلة .
كان عبدالله أبن حساني الجندي في بناية القصر الجمهوري وضمن سرايا الحماية هو الممشى لابو قاسم الى أروقة المحاكم ، وتمكن الافلات منها بأعجوبة . كان محاوراً مميزاً وذوو أسلوب تميز به في إدارة الحوارات وقوة أقناع وحجة ومعطيات .
طيلة فترة عقد الجبهة لم تهدأ مشاكلنا اليومية مع البعثيين أحيانا بأتفه الحجج الواهية . كان شيخ الشيوعيين محمد الدفاعي هو الذي يرشدنا برأيه السديد ونصيحته الحسنة متحملاً ضغوطات كبيرة من تسلكات البعثيين وأستفزازاتهم ، ومن باب الرزق فتح محلاً لبيع المواد الغذائية في منطقة الحمام في وسط القرية ، مما أصبح مركزا حزبياً للقاءات وتحديد مواعيد الاجتماعات وتوزيع أدبيات الحزب من جريدة ومجلة وبيانات .
الشاعر خليل المعاضيدي أبن أخت الراحل محمد الدفاعي ، كان معتقلاً عندما زار وزير الداخلية سعدون شاكر القرية مسقط رأسه عام 1982 وبعد كل زيارة يخرج بمجموعة شباب من قلعة الهويدر منتسبين الى سلك الامن والمخابرات والاستخبارات وضمن تلك الزيارة عرج سعدون شاكر على بيت محمد الدفاعي وتمنى منه أن يطلب شيئ منه سواسية بالآخرين من سكنة المنطقة وأبناء قريته .
فوقف أبو قاسم متأملاً بوجه سعدون شاكر بمعرفة مصير أبن أختي الشاعر خليل المعاضيدي المغيب في سجونكم . فتفاجأ بجوابه لا تكلفني بقضايا أكثر من طاقتي وحدود مسؤوليتي المعروفة لك على ما أعتقد ، أنتهى الكلام مما ترك غصة في نفس المناضل محمد الدفاعي .
عندما فرط التحالف مع البعثيين لم يقتربوا منه ربما لمعرفتهم المسبقة بموقفه تجاه آلية هذا التحالف وموقفه الصلب ، كنا جميعا نلتم حوله سواء كنا داخل التنظيم أو خارجه . قرأ ماركس وأفكاره بوقت مبكر بمنظور نقدي فلسفي مختلف وبرؤى عملية وواقعية محاولاً وجاهداً بعكس أولويات تلك الافكار على واقعنا اليومي المعاش بطريقة سلسة وبسيطة ومفهومة . كان محاضراً ملهماً لموضوعة التحالفات على أسس الماركسية وربطها بالعوامل الموضوعية والذاتية والاسس التي تبنى عليها . ويعتبر التحالفات مع عقليات البرجوازية الوطنية أن صح التعبير ذو مفترق طرق قد تؤدي الى الانتحار ، إذا لم تستثمر تلك التحالف على أسس سياسية صحيحة والعلاقة بين الستراتيجية والتكتيك . إذن .. فرط التحالف مع الحليف البعثي وبقى طوق أبو قاسم شامخأ بين ناسه وأهله ، حدثوني أهلي بعد سنوات طويلة من اللقاء بهم عن أبو قاسم وكلماته كلما ألتقاهم التهدئه من روعهم من أثر غيابي ومصيري المجهول رزق بعدد من الأبناء والبنات ، وكان الاكثر ممن حمل شعلة والده قاسم القريب الى القلب والعقل ، والذي مرة بتجربة علاقة حب إنتهت بطريقة تراجيدية حزينة ، وكانوا مصير الآخرين من أولاده سلام ، ثائر ، خالد ، رباح ، عادل صعبة بعد غيابه . قبل سنوات كتب قصة حياته ” رواية ” بعنوان قرب النهر ” الدكتور عبد الحسين أحمد الخفاجي ، وقد أهداني نسخة منها . في العام ١٩٨٢ آخر أيامي قبل الالتحاق مع الثوار الشيوعيين في الجبل ، تسلل من الجبل الشيوعي عبد الزهرة العامري محاولاً لإعادة التنظيم بتكليف من قيادة الحزب وقصد بيتنا للإختفاء والتحرك في ذلك الظرف الصعب والمخيف في تاريخ العراق السياسي ، وحاولت والدتي أخفائه ومساعدته بتنفيذ مهمته لكن واجهتنا عدة صعوبات وهذا أمر واقع آنذاك ، فجرى الاتصال بالصديق عدنان صافي والمرحوم ماجد صبري ، لكن الظروف كانت أصعب وشديدة الخوف بعد أن عرفوا أهله فزاد الخناق الى مستويات الانتحار وفضح الأمر سيؤدي الى كارثة محدقة تحرق الاخضر والبابس ، فذهبت الى المناضل محمد الدفاعي ووضعت الحقائق أمامه ، وضمن حنكته وهدوئه المعهود طالبنا وبالسرعة الممكنة ترتيب وضعه وأخراجه من القرية قبل وقوع الكارثة ، وأخذت الامور على عاتقي وتمكنت من أخراجه ليلاً من القرية ووصوله الى الجبل مرة أخرى ، فتنفسنا الصعداء بعيداً عن أي أذى ، كان قاب قوسين . لترقد روحك بسلام ، أيها المناضل محمد الدفاعي .