هل نطقت بلاسخارت بحقيقة الوضع في العراق؟
يُقال إن تأتي الحقيقة متأخرة أفضل من أن لا تأتي، لكن كيف يمكن للسامع أن يعتبر ما خرج على لسان من راوغ وهادن، وانبطح ونافق وكذب، طوال سنين بأنه الحقيقة، فيدفعه هذا الشعور إلى الاعتصمام بما سمعه كيقين وتصديق قائله؟ وهل من وضع يده بيد القاتل ومنحه ميزة الفاعل السياسي والقائد والزعيم، وأعطاه الجاه والأهمية، من خلال زيارته والجلوس في مقره، ومباركة دوره وغض النظر عن جرائمه، يمكن أن يقول الحقيقة فعلا بلا رتوش وتشذيب وتجميل؟ وما فائدة الأقوال والخطابات والتصريحات، من دون الأفعال التي تثبت الحقائق على أرض الواقع؟
في أواخر شهر آب/أغسطس عام 2018، أسند الأمين العام للأمم المتحدة منصب رئاسة البعثة الأممية في العراق إلى السياسية الهولندية جانيين بلاسخارت. ومنذ تسنمها هذا المنصب وحتى اليوم حرصت وبشكل متعمد، على أن تكون كل تصريحاتها وبياناتها وتغريداتها مُغلّفة بالنفاق والتزلف إلى السلطات العراقية. وباتت عبارات الشعور بالقلق وشجب العنف، والتهرب من الإشارة بشكل واضح لا لبس فيه إلى المجرم، كلمات لا معنى لها تتكرر في كل مواقفها، بينما أنهار من الدم سالت أمام عينيها، وخلال فترة وجودها على رأس البعثة الأممية، بل إنها جاهرت بالاعتراض على ردود فعل العراقيين، الذين لم يجدوا وسيلة لمجابهة ظلم السلطات الحاكمة غير قطع الطرق كحالة من حالات العصيان المدني، فانتقدت تلك الممارسات، بحجة أنها تكبد العراق خسائر مالية كبيرة، لكنها تتعمد نسيان أن المليارات من أموال الشعب تُسرق يوميا من قبل مافيات الفساد الحاكمة، الذين تتجول يوميا في مكاتبهم ومقراتهم وتجلس إلى موائدهم.
المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تتطلب أن يتوفر الوصف للحالة الراهنة، مترافقا مع الحلول الحقيقية للنهوض بالواقع
وفي الأسلوب نفسه، وعلى طريقتها في قول عُشر الحقيقة، قدّمت بلاسخارت إحاطتها الجديدة حول الوضع العراقي أمام مجلس الأمن الدولي في الرابع من الشهر الجاري. ويمكن إجمال ما صرّحت به في النقاط التالية: أولا، إن الخلافات السياسية بين الأطراف المشاركة في العملية السياسية مفتوحة النهايات، ولا يمكن الحد منها. وهذه الخلافات كان وقعها كبيرا على العراقيين، وأثرت بشكل ملموس ومحسوس في حياتهم ومستقبلهم. وكان دور البعثة التي ترأسها، هو دعوة هذه الأطراف السياسية إلى تجاوز مأزق الخلافات، والركون إلى الحوار والانتظام في ورشة الحوار الوطني، التي دعا اليها رئيس الوزراء. ثانيا، إن الأحزاب السياسية لديها مؤيدون مسلحون، وهؤلاء ينشطون بشكل كبير ويهددون حياة الناس بما لا يمكن التنبؤ بنتائجه. كما يجرون البلاد إلى شفا فوضى عارمة تقود إلى قتل الأبرياء وإصابة آخرين، وهذه الأفعال دليل واضح على أن الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي تضع مصالحها الخاصة فوق المصلحة الوطنية، ما قاد البلاد والعباد إلى الدخول في نفق مظلم ومأزق طويل. ثالثا، لم يجد العراقيون وسيلة للخروج من المأزق الذي وضعهم فيه ساسة البلد، سوى النزول إلى الشوارع قبل ثلاث سنوات، محتجين على انعدام الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن هذا الاحتجاج تحول إلى مأساة، حيث قتل وجرح وخطف المئات منهم. رابعا، إن الانتخابات الأخيرة، التي جرت في العام الماضي لم تؤد إلى نتيجة تذكر، فقد أنتجت حكومة لا تحكم منذ أكثر من عام. كما أن الأطراف كافة، التي اشتركت في الانتخابات لم تكن على مستوى المسؤولية، وارتكبت أخطاء استراتيجية. خامسا، إن الوضع العراقي ما زال منفتحا على مخاطر جمة، قد تقود إلى مزيد من الفتنة وسفك الدماء، ثم وصول البلد إلى حافة الهاوية، تقابله خيبة أمل شعبية من الوصول إلى حل، في ظل طبقة سياسية لم يعد يثق فيها أحد. سادسا، لقد فشلت كل المحاولات لإجراء إصلاحات، خاصة في مجال مكافحة الفساد، الذي بات سمة أساسية من سمات الاقتصاد العراقي، وواقعا يوميا يعيشه الناس، وأن القطاع العام أصبح مجالا واسعا للخدمة السياسية، وليس تقديم الخدمة للشعب، من خلال زج الأتباع والأزلام والمؤيدين فيه لهذا الطرف السياسي أو ذاك. في ضوء هذا الوصف صفق الكثير من المواقع الإخبارية العراقية لهذه الإحاطة، كما اعتبرها العديد من المراقبين السياسيين العراقيين، خاصة من الأطراف المعارضة للعملية السياسية، بأنها أم الإحاطات التي فضحت الطبقة السياسية، لكن يبدو أن هذه الأطراف لم تقرأ جيدا الدوافع الكامنة خلف هذا التغيير في لهجة رئيسة البعثة الأممية في العراق، فقد سارت المرأة خلف توجيهات ووصايا الولايات المتحدة الأمريكية بعدم إحراج الطبقة السياسية منذ تسنمها المنصب، وكانت طول الفترة الماضية تبتعد عن تسمية الأشياء بمسمياتها، مخافة الغضب الأمريكي، لأن التجربة تجربتهم، ولأن واشنطن نفضت يدها من عاملها على العراق رئيس الوزراء الحالي، بعد أن تيقنت بأنه غير قادر على فعل ما تريد، ولأن وأشنطن أعلنت بصراحة في تقرير الأمن القومي الأخير بأن العراق لم يعد من أولوياتها. عليه تجرأت بلاسخارت هذه المرة، وقالت الذي سمعناه، والذي حاولت «طمطمته» خلال السنين الماضية، وعلى الرغم من إطلاقها أوصافا وتسميات لم نسمعها منها سابقا، لكنها أحجمت عن القول الصريح بأن كل ما حصل في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم كان خدعة، وأن العملية السياسية لم يعد لها وجود واقعي في المشهد العراقي، بل إنها تجرأت بلا وازع من ضمير لتقول بأن الحلول ما زالت ممكنة، لكن من دون أن تسمي الوسائل التي يمكن بها تقديم الحلول، ما يعطي انطباعا واضحا بأن بلاسخارت ما زالت تراهن على الحصان الخاسر، الذي أنفق عليه المجتمع الدولي 20 عاما من الدعم والمؤازرة والتلميع والتجميل، بينما كان الشعب هو الضحية. وعندما تقول صراحة بأن الفاعلين في المشهد العراقي، المحضونين دوليا وأقليميا، قادرون على إشعال فتيل الجحيم في أي لحظة، فمعنى ذلك أنها توافق على وضع مصير شعب ودولة في مهب الريح، لأنها تجنبت القول صراحة بأن على المجتمع الدولي الذي صنع الكارثة، أن يتحمل مسؤولياته اليوم ويلقي هؤلاء اللصوص إلى المحرقة.
يقول أينشتاين إن (الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها وتوقع نتائج مختلفة). ويبدو أن بلاسخارت تعارض هذا القول، بدليل أنها ما زالت تقول بإمكانية تغيير سلوك الطبقة السياسية العراقية للخروج من المأزق، متناسية تماما العشرين عاما الماضية من الفساد والقتل والسرقات التي مارسوها في حكم البلاد. في حين أن الأمم المتحدة وبعثاتها التي تعمل في الدول التي تعاني الأزمات والحروب، ليست مجرد أدوات توصيف للحالة الراهنة في ذلك الواقع. فالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تتطلب أن يتوفر الوصف للحالة الراهنة، مترافقا مع الحلول الحقيقية للنهوض بالواقع. يقينا لا جديد في تقرير المبعوثة الأممية، فاللعبة الدولية في العراق تتطلب الإبقاء على هذه الطبقة الفاسدة، كي يبقى خط النفوذ متوازنا بين قوى دولية وأخرى إقليمية، وأن لا ينجروا إلى صراعات مباشرة. فهل يُعقل أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية العاملة في العراق، لا تملك معلومات موثقة عن حجم الفساد الذي تمارسه الطبقة السياسية؟ ولا يعلمون من هم الذين يقتلون ويخطفون العراقيين، لذلك هم بحاجة إلى تقرير بلاسخارت كي يعرفوا الحقيقة؟ إذن لماذا لا يطرحون البديل؟