إدوارد سعيد والمسألة الفلسطينية
يسعى إيف كلافارون في هذا الجزء الخاص بفلسطين إلى الوصل بين تفكير إدوارد سعيد في «المسألة الفلسطينية» ومشروعه الأكاديمي الخاص بالاستشراق وتفكيك خطابات الهيمنة الامبريالية الغربية بمختلف تمثيلاتها واستراتيجياتها. ويصبح الاحتلال الصهيوني باعتبار ذلك امتدادا للاحتلال الأوروبي الذي ناءت تحت وطأته أصقاع عدة من العالم وضمنها البلاد العربية. ويحتكم الكاتب إلى قراءة دقيقة للأبحاث التي خصصها سعيد لهذه المسألة كي يؤكد «القناعة الانسية» لصاحب الاستشراق ويدحض أي اتهام بالشوفينية والتطرف والانغلاق. (*)
فلسطين والاستشراق وخطاب الهيمنة
رفض سعيد باطراد الصورة المزدوجة السائدة في خصوصه: الجامعي والأكاديمي المتخصص من جهة والفاعل السياسي الذي نذر حياته لخدمة القضية الفلسطينية من جهة أخرى. ذلك ان الفاعلية النقدية لا يسعها الحضور إلا في سياق عالم متجذر. ومنذ عام 1967 وحرب الأيام الستة بنتائجها الكارثية بالنسبة للعرب أصبحت فلسطين الانشغال الرئيس لإدوارد سعيد والذي ناضل من أجل قضيتها بدون هوادة. كان التزامه الذي لا لبس فيه إلى جانب عرفات وحركة فتح هدفا لهجوم عنيف في الولايات المتحدة والعالم العربي أيضا. كانت اتفاقية أوسلو المبرمة عام 1993 في نظر سعيد بمثابة نسخة فلسطينية من معاهدة فيرساي المبرمة عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان من جراء ذلك ان التزم بمسافة حيال عرفات الذي اتهمه علاوة على ذلك بتدبير وتنظيم الارتشاء. وبعد ان دعم فكرة دولتين منفصلتين؛ وهو الحل الذي أصبح مستحيل التحقق بفعل مضاعفة بناء المستوطنات وتفتيت الأراضي بفعل الجدار الأمني العازل الذي أقامته إسرائيل فقد أصبح مؤثرا لحل التعايش بين شعبين متساويين ومتصالحين فوق الأرض التاريخية لفلسطين.
كتب سعيد أبحاثاعدة تهم العلاقات الحديثة بين الإسلام والعرب والشرق من جهة وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والغرب بشكل عام من جهة أخرى. يرصد كتاب الاستشراق المحطات الكبرى التي تبدأ بالحملة الفرنسية في مصر وبروز الهيمنة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية مرورا بالحقبة الاستعمارية وتبلور المعرفة الاستشراقية في أوروبا إبان القرن التاسع عشر. ويصف كتاب «مسألة فلسطين» تطور الصراع بين سكان فلسطين وغالبيتهم من المسلمين والحركة الصهيونية التي يعتبرها سعيد غربية بعمق. ويجلي الكتاب ما تسعى الرؤية الغربية إلى طمسه وتغييبه وأقصد صراع الشعب الفلسطيني من أجل فرض حقه في تقرير المصير. ويعالج كتاب «تغطية الإسلام» قضية راهنة تتمثل في ردود الفعل الغربية والأمريكية بشكل خاص حيال العالم الإسلامي الذي ينظر إليه بوصفه بؤرة استراتيجية وحساسة منذ سنوات السبعينات من القرن الفارط. ويمكن اعتبار هاته الأبحاث الثلاثة مؤسسة للدراسات ما بعد الاستعمارية.
يبدو كتاب «مسألة فلسطين» للوهلة الأولى بمثابة تطبيق لنظريات الاستشراق على منطقة وتاريخ خاصين ونقلا للاستعمار إلى سياق الصهيونية. ويتمثل موضوع هذا البحث في التعبير عن الوضعية الفلسطينية في علاقتها بالغرب والولايات المتحدة بشكل خاص واسباغ طابع مثالي على استراتيجية المقاومة ضدا على خطاب الهيمنة. ويعين سعيد بدقة هدفه والذي يتمثل في الصهاينة وليس اليهود ويعارض بشدة المعادلة التي مؤداها ان العداء للصهيونية يعادل العداء للسامية. تصبح سيرورة الأحداث في فلسطين قابلة للمقارنة في نهاية الأمر بالظاهرة الموصوفة في «الاستشراق»؛ إذ يجري اختزال الفلسطينيين إلى مجرد أشياء ويتم انكار وجودهم واكراههم على الاختفاء بتأثير البروباغاندا الصهيونية. ويستعيد تأسيس دولة لليهود في فلسطين بعض مبادئ الاستعمار الأوروبي وهيمنة لم تتوقف منذ تأسيس إسرائيل وانما ازدادت حدتها على العكس من ذلك. وتتمثل خصوصية هذا الاحتلال في ارتباطه بتحقق وعد إلهي «الأرض الموعودة»؛ وهو ما يضعنا أمام احتلال شبه ديني: تتمثل مهمة اليهود في شراء هذه الأرض ونوعا من التقويم والترميم. لا يتعلق الأمر بتأسيس وانما إعادة تأسيس «البيت اليهودي» في فلسطين حسب تعبير حاييم وايزمان. تتوخى الصهيونية خلق مجتمع لا يمكنه إلا ان يكون متأسسا على أصالة العرق والدين ويفتقر إلى مدينة كبرى اللهم إلا إذا اعتبرنا الولايات المتحدة وجاليتها اليهودية المهمة مضطلعة بهذا الدور. يشدد سعيد في هذا المعرض على مفارقة وظلم صارخين. فلكي تستقبل اليهود المنفيين فانها عمدت إلى تهجير فلسطينيي إسرائيل وحولتهم من ثم إلى لاجئين. وينزع سعيد بموازاته بين الصهيونية والامبريالية الأوروبية إلى تحويل حركة التحرير اليهودية المزعومة إلى اجتياح تحفزه أيديولوجيا غازية.
يوسع الكتاب الثالث «الاستشراق» سؤال تمثيل الإسلام في وسائل الإعلام الغربية والأمريكية بشكل خاص انطلاقا من سنوات السبعينات. ويؤكد سعيد ان الخطاب حول الإسلام ينزع بشكل أكثر وضوحا إلى تأكيد سلطة. بيد انه يعمد شأن صنيعه في كتاب «الاستشراق» إلى مساءلة مصداقية وأصالة المعرفة في خصوص الإسلام والمتأثرة بوضعية من يقومون بإنتاجها. يشكل الإسلام بالنسبة للغربيين نعتا اختزاليا ينهل من الاستيهام والايديولوجيا. وقد أصبح منذ أزمة البترول في مستهل عقد السبعينات كبش فداء وموصولا بالأنظمة القمعية والقرسطوية. أصبح الوسم الملصق بالإسلام مشبعا أيديولوجيا كما تشهد على ذلك مقالة صمويل هتينغتون «صدام الحضارات» والتي قامت بتثبيت الإسلام في وضعية مضادة للحداثة وحولته إلى العدو الأول للغرب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. يلاحظ سعيد على الرغم من ذلك فروقا جلية بين أوروبا والولايات المتحدة؛ اذ تتوفر البلدان الأوروبية على تجربة مباشرة مع العالم الإسلامي من خلال تجربة الاحتلال والهجرة فيما تفتقر الولايات المتحدة إلى ذلك وحيث لا وجود للإسلام عندها خارج وسائل الإعلام والتي تمثله بشكل شبه حصري بوصفه غريبا ومصدر تهديد. تشكل هاته التمثيلات جزءا لا يتجزأ من المسألة الفلسطينية باعتبار النتائج التي تترتب عنها والمتمثلة في تبخيس الفلسطينيين وارغامهم على الركون إلى الصمت.
تتيح السيرة الذاتية «خارج المكان» الصادرة عام 1999 الوصل بين بدايات حياة سعيد ونهايتها والتي اتسمت بالمنفى والنبذ. بدأ التفكير في السيرة منذ عام 1994 وتزامن تحريرها مع اكتشاف إصابة سعيد بسرطان الدم. وهي تشكل من ثم نوعا من الكتابة ضد الموت والتي تتوخى إعادة بناء للذات واستعادة تاريخية لفلسطين الوطن المفقود. واللافت للانتباه في هذا المعرض ان سعيد يعيد قراءة سنوات التكوين هاته بطريقة سياسية جدا ومن خلال وعي مبكر مفترض بمقاومة الامبريالية الأوروبية المنهارة. أضحى الركون إلى الشغب والوقاحة واحتقار الأساتذة البريطانيين والحالة هذه فعل تمرد ضد الاستعمار.
إدوارد سعيد والأسلوب الأخير.
تولي فلسفة سعيد بارتباطها بالبدايات وضرورة استشراف الانسجام والتناغم مع حقيقة العالم أهمية خاصة للحظات النهائية والمتأخرة. يتمثل منطلق تحليل ادورنو الذي سوف يستلهم منه سعيد في «الأسلوب الأخير» لبيتهوفن الذي أسبغ بعدا دراميا على مرحلة خاصة في التاريخ الثقافي. وبمعزل عن استشراف شكل من الهدوء والحكمة فإن هذا الأسلوب الأخير لا يشكل خلاصة أو ذروة العمل ولكنه يتشكل في سياق علاقة غرابة واستلاب مع الجمهور في حدود ايحائه بفكرة الموت.
هكذا إذن تبدو الأعمال الأخيرة لسعيد وخصوصا «الأنسية والنقد الديمقراطي» الصادر عام 2004 معاكسة لما يترقبه القارئ بابرازها تلكم الرغبة في إعادة ادراج الإنسية في صلب العلوم الإنسانية وتحويلها إلى سيرورة للنقد الديمقراطي. لا يتمثل الأسلوب الأخير لسعيد في المصالحة المعجزة ولكنه يتضمن نوعا من التراجع من خلال هذه الرغبة في العودة إلى الأنسية التي تبدو مضادة لأهداف وغايات النظرية المعاصرة. تعتبر أنسية سعيد علمانية ومتأسسة على ممارسة القراءة النقدية. يدافع سعيد عن أنسية متعالية على النزهات الوطنية وتتأطر داخل الفضاء الما بعد الأوروبي المتحرر من الامبريالية ومنسجمة مع عالم معولم وغير متجانس وبالاستناد إلى ثورة كوبرنيكية.
يكمن نجاح سعيد في إضفاءه طابعا اشكاليا على الغرب وخطاباته أكثر منه في خلخلته وتفكيكه للتمثيلات الخاصة بالشرق. وقد عرف مشروعه وخصوصا كتاب الاستشراق الذي اكتسب بفضله المؤلف حضورا عالميا نجاحا ساحقا وان كان في الآن نفسه عرضة لاشكال عدة ومختلفة من التحفظات. وتمثل لذلك بالنقد المنهجي الذي أنجزه روبير اروين في كتابه «المعرفة الخطرة: الاستشراق والمستاءون منه». وإذا كان سعيد قد شكل مدرسة بتصوره في خصوص الاستشراق الذي تحول إلى مصطلح شامل يبين الطريقة التي تمثل وتعامل بها الثقافات الخاضعة للهيمنة. غير ان مواقفه الأيديولوجية وسجالاته أثارت ردود أفعال لا نظير لعنفها. ويعتبر برنار لويس الذي صنفه إدوارد سعيد ضمن العصابة المنبوذة للمستشرقين المعاصرين أكثرهم حدة وشراسة. وقد انثالت الانتقادات في حقه بكونه هاويا غير مقتدر وصاحب روح مفرطة في سجاليتها ومن ثم هجومها وعدوانيتها في حق الجميع بمن فيهم العرب علاوة على اعتناقه أيديولوجية قريبة من الأصولية الإسلامية. وضمن السجل ذاته وصف إدوارد الكساندر سعيد بكونه «أستاذ الرعب» متهما إياه بمشاركة المثقفين افتتانهم بالإرهاب. ورغم تعرضه للتهديد بالقتل فقد حرص سعيد على الرد بحيوية لا تنضب على هاته الهجمات وبطريقة لا أثر فيها لأي انفعال أو سعار.
(*) ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف