أكبر سرقة في تاريخ العراق الحديث
يبدو أن نهاية ولاية رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي تأبى أن يسدل الستار عليها بسلام ومن دون فضيحة مدوية، فبعد الكثير من المشاكل وملفات الفساد التي فتحت، ولم توضع لها الحلول، والقضايا التي تمت لفلفتها بحجة تشكيل لجان تحقيق، من دون أن يتم الإعلان عن نتائج تحقيقاتها. تثار اليوم فضيحة من العيار الثقيل تمت فيها سرقة حوالي 2.5 مليار دولار من حساب الأمانات الخاصة بالهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين، وقد كشفت التحقيقات الأولية والتسريبات الإعلامية، أن رؤوسا كبيرة في البرلمان، وفي حكومة الكاظمي متورطة في القضية التي باتت تعرف إعلاميا بـ»سرقة القرن»، ويبدو أن اتهامات وجهت لهيثم الجبوري عضو اللجنة المالية السابق في البرلمان، الذي خسر انتخابات 2018، فعينه الكاظمي مستشارا اقتصاديا في مكتب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى أسماء كبيرة، يبدو أنها لم تكن إلا ستارا يخفي وراءه جهات سياسية مختلفة.
تابع بعض الصحافيين القصة، وحاولوا تسليط الضوء على ما جرى، وكان من بين المتابعين الصحافي العراقي المقيم في الولايات المتحدة رياض محمد، الذي شرح القصة قائلا:» لدى الهيئة العامة للضرائب في العراق حساب مصرفي في مصرف الرافدين بعنوان حساب الأمانات، هذا الحساب هو أساسا مبلغ يستقطع من أي شركة تتعاقد مع الدولة العراقية كضمان لدفعها ضريبة الدخل. للشركة أن تطلب من هيئة الضرائب في ما بعد استعادة جزء من، أو كل مبلغ الأمانة بطلب تحريري يخضع للتدقيق من أقسام التدقيق والمحاسبة والرقابة، وبعد إثبات تنفيذ العقد أو المشروع تماما، ودفع كل الضرائب المستحقة على الشركة لكل السنوات السابقة، وإثبات أن المبلغ المطلوب استعادته مبلغ استقطع كزيادة عن المبلغ المطلوب أصلا من الشركة، تتم إعادة الأمانة الضريبية إلى الشركة المعنية».
وذكر تقرير لشبكة «نيريج» للصحافة الاستقصائية في العراق: أن «اكتشاف ما بات يعرف في العراق اليوم بسرقة القرن، تم بعد شهرين من استقالة وزير المالية السابق علي علاوي، التي جاءت إثر تداعيات فضيحة فساد في عقد تعويض شركة بوابة عشتار للنظم وخدمات الدفع الإلكتروني (شركة أهلية) بمبلغ 600 مليون دولار من مصرف الرافدين، وبعد أيام من قرار قضائي بوقف صرف نحو 50 مليون دولار، لمكتب رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي». كما كشف التقرير أن ستة عشر متهماً تدور حولهم الشبهات في قضية «سرقة القرن»، ويخضعون للتحقيق بتشكيل شبكة تمتد خيوطها من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء، وصولاً إلى الهيئة العامة للضرائب ووزارة المالية، حسب تصريحات نواب ومتابعين للملف.
نهب المال العام أصبح سمة من أبرز سمات عراق ما بعد 2003، فالفساد دخل إلى كل مفاصل الحياة الاقتصادية في العراق، ولوث السياسية والإعلام
على ضوء التحقيقات، أصدرت الجهات القضائية في العراق تقريرا أوضحت فيه بدقة تفاصيل «سرقة القرن»، إذ ورد في التقرير: «تبين من خلال التدقيق سحب مبلغ مقداره ثلاثة ترليونات وسبعمئة وواحد مليار وثلاثمئة وثمانون مليون دينار عراقي (حوالي 2.5 مليار دولار) من حساب الأمانات الخاصة للهيئة العامة للضرائب، الذي يحمل الرقم 60032 في مصرف الرافدين، مودعة في فرعين هما الأحرار والضرائب، وذلك في الفترة الممتدة من 9 أيلول/سبتمبر 2021، إلى 11 آب/أغسطس 2022.وقد تم السحب عبر 247 صكاً مصرفياً لصالح خمس شركات هي: القانت للمقاولات العامة، الحوت الأحدب للتجارة العامة، رياح بغداد للتجارة العامة، المبدعون للخدمات النفطية، بادية المساء للتجارة العامة. وتوصل التدقيق إلى أن أياً من هذه الشركات الصغيرة والحديثة الإنشاء، لا تملك أمانات ضريبية وليس لديها توكيل من طرف ثالث لسحب أمانات ضريبية، وأن الصكوك المحررة غير مقيدة في حسابات هيئة الضرائب، وقد تم سحب مبالغها فور إيداعها لدى مصرف الرافدين». ونشرت تقارير صحافية تفاصيل عن الشركات التي قامت بسرقة 2.5 مليار دولار من المال العام في العراق وهي: شركة القانت للمقاولات العامة تم تسجيلها في 7/9/2021 برأس مال مقداره 5 ملايين دينار، وفتح حسابها المصرفي في الشهر ذاته، مديرها المفوض هو نور زهير جاسم. والاسم ذاته يظهر مديراً مفوضاً في شركة المبدعون للخدمات النفطية وهي الأقدم من بين الشركات الخمس، أنشأت في 9/3/2006، برأس مال مقداره 10 ملايين دينار، وفتح حسابها المصرفي في مصرف الرافدين في 28/10/2021. أما شركة الحوت الأحدب للتجارة العامة فقد تم تأسيسها في 6/7/2021 برأسمال مقداره مليون دينار، وفتح حسابها المصرفي في 16/11/2021 ومديرها المفوض هو عبد المهدي توفيق مهدي، ويظهر اسم الأخير مديراً مفوضاً كذلك لشركة رياح بغداد، التي أسست في 28/7/2021، برأس مال مقداره مليون دينار، وفتح حسابها المصرفي في 23/11/2021 . وعبد المهدي توفيق مهدي هو مدير مفوض لشركة ثالثة هي بادية المساء للتجارة، تم تأسيسها في 28/7/ 2021 (تاريخ تأسيس شركة رياح بغداد) برأسمال مقداره مليون دينار وفتح حسابها المصرفي أيضاً في 16/11/2021. وقد كتب الناشط القانوني سعد حسين في صفحته على فيسبوك بعض التفاصيل المهمة حول الفضيحة إذ قال: إن «هيئة النزاهة تلقت معلومات عن صك مشبوه في آب/أغسطس 2021 (أي في الأيام الأولى للسرقة)، ونبهت هيئة الضرائب لذلك، وطالبتها بأوليات الموضوع للتحقق من المعلومات التي وردت لها. لكن هيئة الضرائب أكدت لهيئة النزاهة عدم وجود ضرر على المال العام، وفي ضوء ذلك أجابت هيئة النزاهة بأنها لم تطلب إيقاف صرف الصك، بل أرادت التحقق فقط من سلامته، وما دامت الضرائب تؤكد ذلك فيمكن للضرائب استئناف تحرير الصك!». أما تقرير الهيئة العامة للضرائب حول الفضيحة المدوية فقد أشار إلى: «أن الهيئة العامة للضرائب لم تجد أي أوليات لصكوك الشركات الخمس، ولا حتى لمعاملات استرداد مبالغ الأمانات، كما لم تجد أثراً لها لدى تدقيقها سجلات حسابات الأمانات والمستردات في قسم المحاسبة في الهيئة، ما يشير إلى تلاعب قامت به إدارات في الهيئة العامة للضرائب لصالح الشركات الخمس التي قامت بسرقة المبالغ». وزير المالية المستقيل علي علاوي كشف بعض التفاصيل عن الفضيحة إذ كتب أنه: «وافق على مقترح اللجنة المالية في البرلمان، لأن مكتب رئيس الوزراء وديوان الرقابة المالية وهيئة الضرائب كلها أيدت هذا المقترح بحصر التدقيق بيد هيئة الضرائب فقط»، لكنه يقول أيضا إنه «شك في موضوع صرف أموال الأمانات، وأبلغ رئيس الوزراء بذلك، وأمر هيئة الضرائب بعدم صرف أي أموال إلا بعد موافقته، لكن هيئة الضرائب تجاهلت تعليماته واستمرت بالصرف». وفي النهاية دعا علاوي لتدقيق ملفات هيئة الجمارك أيضا، لأنه يشك في أن سرقة مشابهة قد حدثت هناك!
على الرغم من أن الفساد ونهب المال العام بات الصفة الشائعة التي لطخت الحياة السياسية في العراق، إلا إننا نجد بعض السياسيين يحاولون استعمال ملفات الفساد كأدوات للنيل من غرمائهم في العملية السياسية، وفي هذا المضمار جاءت مؤخرا تصريحات القيادي في التيار الصدري صباح الساعدي حول فضيحة «سرقة القرن» بتغريدته التي شرح فيها الأزمة قائلا: «ليس من المستغرب إثارة سرقة من السرقات الكثيرة والكبيرة في العراق مثل، صفقة الأسلحة الروسية بمبلغ 4.2 مليار دولار التي وقع عليها المالكي، أو صفقة المدن الطبية العشر بمبلغ تجاوز مليار دولار في حكومة المالكي، التي أحالتها لشركة نجارة خشب استرالية (لمغترب عراقي من الدعاة)، وما كشفه العبادي من وجود أكثر من 50 ألف فضائي في الجيش أيام حكومات سلفه، وغيرها كثير، واليوم سرقة أمانات هيئة الضرائب المودعة في مصرف الرافدين والشركات الخمس التي سرقت 2.9 مليار دولار». واعتبر الساعدي الفضيحة المدوية التي أثيرت عبارة عن ضجة الغاية منها التغطية على ما يجري في عملية المحاصصة التي سيتم عبرها تشكيل حكومة محمد شياع السوداني. الحقيقة أن نهب المال العام أصبح سمة من أبرز سمات عراق ما بعد 2003، فالفساد الذي دخل إلى كل مفاصل الحياة الاقتصادية في العراق، ولوث السياسية والإعلام وكل تفاصيل حياة المواطن المغلوب على أمره الذي يتعايش معه كقدر كتب عليه، ويتداول أخباره بحماسة لمدة قصيرة ثم يتناساه، لتبدأ قصة فساد جديدة وهكذا، فهل سيكون مصير «سرقة القرن» مثل سابقاتها من فضائح الفساد؟ ربما فهذا أمر وارد الحدوث جدا في عراق تستمر فيه دوامة الفساد بالدوران لتبتلع البلد وما فيه.
كاتب عراقي