لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا .
محمد السعدي
في تجربة ستالين الطويلة في الحكم السوفيتي ، والتي تفردت بقبضته الحديدية ضد معارضي أفكاره وسياسته ونهجه المتسلط بالتطهير لخيرة مثقفي وسياسي الاتحاد السوفيتي وممن يحملون آراء ووجهات نظر مختلفة تجاه سياسة البلد وطرق بناء الشيوعية ، أعداد كبيرة شملوا بسياسة التطهير الحزبي والفكري والثقافي . كان بوريس باسترناك الشاعر والكاتب والرسام ضمن لائحة المغضوب عليهم في معارضتهم للسياسة الستالينية وأدواتها في تحقيق بناء المجتمع ، مع ثمة أسماء على مكتب ستالين المتهميين ضد ثورة أكتوبر وسياسة البلد . فعلق على أسم بوريس باسترناك .
” لاتلمسوا ساكن الغيوم هذا ” .
ولد بوريس باسترناك ٢٩ يناير عام١٨٩٠ في موسكو لأب يهودياً فتحول فيما بعد الى الكنيسة الارثوذكسية ، وكان والده رساماً وأستاذاً فنياً متميزاً ، وأمه روزا كوفمان عازفة بيانو شهيرة .
أعطت تلك البيئة لبوريس باسترناك في نشأته الأولى الاهتمام بمواضيع الثقافة والفن ، مما حددت مساراته منذ البدايه . كانت علاقة والده بالكاتب الشهير ” ليو تولستوي ” وزيارته المتكررة الى بيتهم وخصها في الاحاديث الادبية . تركت أثرها الواضح على أهتمامات ” باسترناك ” الواسعة . ففتحت له مجالاً للسؤال والقراءة والتخصص . في الحرب العالمية الأولى عمل في مختبر للكيمياء مما منحته مساحة في البناء الدرامي لروايته الوحيدة ” دكتور زيفاكو ” والتي تعتبر أشهر ما كتبت من عمل ملحمي نثري في القرن العشرين ، والذي منح على أساسها جائزة نوبل للاداب عام ١٩٥٨ والذي رفضها لعدة أسباب ، بعد ان إستهدف من زملائه في إتحاد الكتاب السوفييت السلطوي وشنوا عليه حملة كبيرة طالبوا ستالين بعريضة طويلة بطرده من الاتحاد السوفيتي . فذهب بنفسه الى دائرة البريد وحرر خطاباً مقتضباً بقلم الرصاص الى الاكاديمية السويدية يرفض بها الجائزة عام ١٩٦٠ مات بمرض سرطان المعدة ومشى خلفه في توديعه الآخير قلة من أصدقائه ومتابعيه . كان حلمه كبير بالبلاشفة وثورتهم وحلم التغير المنشود في بناء الانسان والمجتمع مثله مثل ماياكوفسكي والذي إنتحر في عز عطائه وشبابه تمرداً على يوميات الواقع ويأسه من أفق التجربة .
باسترناك سرعان ما تبدد وشعر بالاحباط واليأس وترك كتابة الشعر للثورة ومنجزاتها وتطلعاتها العالمية . وتفرغ لترجمة الشعر العالمي الى الروسية . فبدأ بترجمة شكسبير ” هاملت .. الملك لير ” . منذ كتاباته الأولى تأثر بالشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف وبكتابته للشعر في البناء اللغوي . درس في بداية حياته علم الفلسفة ، لكن سرعان ما تركها متجهاً الى الادب والشعر ، لكنها أثرت به لاحقاً في إنجازاته الادبية من شعر ورواية . كتب روايته الوحيدة ” دكتور زيفاكو ” والتي تعتبر ملحمة رومانسية وقيمة فنية وأدبية ترصد الحدث بعين مثقف واعي حول الثورة البلشفية وحلمها المنشود في تحقيق حلم الانسان ، إنها تجمع بين فن الرواية والسيرة الذاتية ، إنها قصة متعددة الطبقات بدءاً بالعام ١٩٠٣، وإثر موت والدة يوري جيفاكو . أما والده وهو صناعي غني ، فقد إنتحر جراء التأثير المحبط الذي مارسه محاميه ” كوماروفسكي ” . تعامل مع شخصيات الرواية من خلال حياة عائلة روسية واكبت يوميات ثورة أكتوبر وتطلعاتهم بأهدافها من خلال حياة المجتمع والحرب والثورة والحب والعلاقات العائلية ، بسبب أنتقادها للثورة البلشفية لم تتجرأ أي دار نشر روسية على طبعها ، مما أضطره أخيراً الى تهريب مسودتها الى إيطاليا وطبعها هناك عام ١٩٥٧ في أوج رتابة أيام الحرب الباردة . حظيت بدعم كبير من أدباء العالم والمؤسسات الثقافية ، بينما تعرضت في داخل روسيا الى الانتقاد والتشويه من قبل الادباء والشعراء السوفييت ، وطالب إتحاد الادباء السوفييت الرئيس ستالين بطرده من البلاد . صدور الرواية وأحداثها باتت محوراً للصراع السوفيتي الامريكي ، وقد قيل لاحقاً ، وهذا ضمن التكهنات أن المخابرات الامريكية هي التي ضغطت على الاكاديمية السويدية بمنح جائزة نوبل للاداب ” ل بوريس باسترناك ” ، وهي وراء ترجمة الرواية الى أربعين لغة عالمية تدخل ضمن سباق الحرب الباردة وتعرية النظام الشيوعي وتجربته . بعد موته بخمسة أعوام تحولت الرواية الى فيلم سينمائي طويل أخراج المخرج البريطاني العالمي ” ديفيد لين ” وأدى دور الدكتور زيفاكو الممثل المصري عمر الشريف ومثل دور زوجته ( جير الدين تشابلن ) أبنة الفنان الكوميدي الشهير تشارلي تشابلن وألف الموسيقى الموسيقار الفرنسي ” موريس جار ”، وحصل الفيلم على خمسة جوائز أوسكار ، ويعد ثامن فيلم عالمي على مستوى شباك التذاكر . كنت أطمح ضمن دراستي الجامعية في الادب الروسي في جامعة بغداد أن أتخصص بحياة ومنجزات الشاعر والروائي والرسام ” بوريس باسترناك ” بما يحمله من رؤيه نقدية وقراءة متأنية وشجاعة للحدث .