الفلوجة 19… الجنرالات يحبون النابالم
تمر هذا الأسبوع، الذكرى 19 على معركة الفلوجة الثانية (7 تشرين الثاني/ نوفمبر – 23 كانون الأول/ ديسمبر 2004)، في محافظة الأنبار، التي شنها المحتل الأمريكي باسم عملية «الفجر» وعملية «غضب الشبح»، بعد فشله في إخضاع المدينة في معركة الفلوجة الأولى (4 نيسان/ أبريل ـ 1 أيار/ مايو 2004). ومن سخرية القدر، مقابل الصمت الرسمي العراقي، أن يُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا إلى الواجهة تفاصيل طالما عملت أمريكا وبريطانيا على طمرها بصدد جرائمها في العراق، وأكثرها وضوحا استخدام الأسلحة المحرمة في الأماكن المأهولة بالسكان، كاليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض والنابالم، مما عرَّض حياة المدنيين، أكثر من المقاتلين، للموت.
وتُشكل مدينة الفلوجة المثال الأكثر بشاعة لما ارتكبته قوات الاحتلال بالتعاون مع ساسة عراقيين. وهي حقيقة تُذَّكرنا بها تقارير شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): « لقد عاش العراق كله عنفا كبيرا منذ إحتلاله إلا أن ما تعرضت له الفلوجة يساوي أربعة أضعاف ما عانته بقية المدن «. وذلك بعد أن وثقت العثور على أكثر من 700جثة، من بينها 550 امرأة وطفلا. وفي عام 2012، أظهرت دراسة صادرة عن المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة، بسويسرا، وهي واحدة من عديد الدراسات، أنه في السنوات التي أعقبت عملية غضب الشبح، كانت هناك زيادة بمقدار 4 أضعاف في جميع أنواع السرطان، بما في ذلك 12 ضعفًا في سرطان الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0-14.
وإذا كانت الدراسات والبحوث العلمية العراقية والأجنبية قد وفرت لنا المعلومات حول استخدام اليورانيوم المنضب في عدة مدن عراقية ووثقت مضاره الآنية وبعيدة المدى المتبدية بأشكال تراوح ما بين التشوهات الخلقية وأنواع السرطان، خاصة في الفلوجة، فإن استخدام الفسفور الأبيض، بقي في الظل، مصنفا كمادة يمكن استخدامها في الحروب بلا مساءلة باعتباره مجرد دخان يوفر الحماية لمستخدميه. مع أنه مادة كيميائية تشتعل ذاتيًا في الهواء. تحترق فورًا عند ملامستها الأوكسجين، مما ينتج عنها دخان أبيض كثيف. ويستخدم عادة بشكل قذائف يحجب وابل الدخان المتصاعد بسرعة كبيرة منطقة واسعة.
ولا يهتم مستخدموه، بكونه سلاحا قاتلا للأشخاص، يتميز بالالتصاق بالجلد ويستمر في الاحتراق حتى يذوب جسد الضحية.
تُشكل مدينة الفلوجة المثال الأكثر بشاعة لما ارتكبته قوات الاحتلال بالتعاون مع ساسة عراقيين. وهي حقيقة تُذَّكرنا بها تقارير شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)
وصورة الرجل، من الفلوجة، المُحتَضن لطفلته بجسدها المحترق شبه الذائب، باتت رمزا لجريمة الإبادة الأمريكية كما هي صورة الطفلة الفيتنامية الهاربة بجسدها المحترق العاري من النابالم الأمريكي. ولاحظت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الدولية، أن الفسفور الأبيض مشهور بالإضافة إلى عمق وشدة الحروق التي يسببها أنها سامة، لذلك قد يموت الضحايا بفشل الأعضاء حتى لو نجوا من حروقهم.
وكانت « مجموعة تحليل العراق» البريطانية قد نشرت تقريرا في آذار/ مارس 2005، أكدت فيه استمرار استخدام الجيش الأمريكي للأسلحة الحارقة بأنواعها من الفسفور الأبيض إلى النابالم. وبينما حاولت الحكومة البريطانية التقليل من أهمية أو إنكار استخدام المواد الحارقة، أُجبر المسؤولون الأمريكيون على الاعتراف باستخدام MK ـ 77 الحارقة، وهو شكل حديث من النابالم، وصفه قائد فرقة مارينز بأن الاصابة به « ليست طريقة رائعة للموت. إلا أن الجنرالات يحبون النابالم. له تأثير نفسي كبير»، وهو تصريح يحمل جزءا من الحقيقة وليس كلها. فاستخدام هذا النوع من الأسلحة يهدف، أيضا، إلى إنزال العقوبة الجماعية بالسكان وإضعاف المعنويات وتقويض إرادتهم في المقاومة.
عراقيا، لا تزال الحكومة تتعامل مع الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية والتي سيحمل العراقيون آثارها لأجيال مقبلة، باستهانة مزرية مرددة ذات التعابير والمصطلحات ألتي يبرر بها الاحتلال جرائمه وبالتالي غسل يديه من المسؤولية التاريخية. حيث صارت مقاومة المحتل إرهابا والغزو تحريرا وقتل المدنيين دفاعا عن النفس واغتصاب النساء هفوة « تفاحة فاسدة»؟ وباتت سردية المقاومة في المدينة بأقلام المتعاونين مع المحتل ملوثة بالطائفية وعزو سبب نشوئها إلى إرهاب القاعدة بينما كانت الحقيقة الصارخة هي تجمع نحو 200 رجل وطفل خارج مدرسة القائد الابتدائية في الفلوجة، يوم الثالث والعشرين من إبريل 2004، احتجاجاً على احتلالها من قبل القوات الأمريكية، وطالبوا بإخلائها وإعادة افتتاحها للدراسة، فأطلقت القوات الأمريكية النار على المتظاهرين وقتلت 17 شخصاً، بينهم 3 أطفال أعمارهم أقل من 11 سنة، وجرحت أكثر من 70، وأطلقت النار كذلك على طواقم الإسعاف الذين حاولوا معالجة المصابين وإجلاء القتلى. كانت هذه هي البداية التي عوقبت الفلوجة بسببها، فقُصفت بقذائف اليورانيوم المنضب ورُشت بالفسفور الأبيض والنابالم.
إن من واجب الحكومات الوطنية حماية كرامة مواطنيها وحقوقهم الإنسانية وأولها حق الحياة وتحقيق العدالة مهما طال الزمن. ولنا في الحكومة الجزائرية مثال يجب أن يُحتذى.
فبعد مضي ستين عاما على توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر، لا تزال العلاقات الجزائرية الفرنسية محكومة بملف الذاكرة والتاريخ. وقد كتب الرئيس عبد المجيد تبون رسالة، بمناسبة عيد النصر في مارس 2022، مشيدا بقوة الشعب الجزائري وعزيمته، لمجابهة آثار دمار واسِع مَهُول.. وخَرابٍ شَامِلٍ فَظِيع، يَشْهد على جرائمِ الاستعمارِ البشعةِ، مؤكدا بأن جرائم الاستعمار الفرنسي «لن يَطالَها النسيان، ولن تسقطَ بالتقادم». وذكّر بمطلب بلاده «استرجاعِ الأرشيف، واستجلاءِ مصير الـمفقودين أثناء حرب التحرير الـمجيدة، وتعويضِ ضحايا التجارب النووية» التي بدأت في 1960 واستمرت حتى 1966، أي أربع سنوات بعد استقلال الجزائر.
لم يحدث أي شيء مماثل في العراق. فضحايا الغزو والاحتلال والمتظاهرين وذويهم، لايزالون، مجرد أرقام في تقارير تطفو بين الحين والآخر في سوق المزايدات الطائفية والعرقية. وتبقى حياة العراقي فيها رقم بلا حياة. ولم يحدث ذلك في الفلوجة مدينة المقاومة الأبية. وإذا كان الرئيس الجزائري قد أكد على وجوب المعالجة المسؤولة المُنصفة والنزيهة لملف الذاكرة والتاريخ فإن ساسة العراق يبذلون أقصى جهودهم لمسح الذاكرة وتلويث التاريخ. لماذا؟ لأنهم يعرفون جيدا أنهما يشكلان خطرا حقيقيا على وجودهم وفضح مشاركتهم في ارتكاب الجرائم.