«أرستقراطية» الشعر و«شعبية» الرواية
الرواية ليست جنساً مغلقاً، بل هي من أكثر الأجناس انفتاحاً وحيوية، الأمر الذي منحها الريادة في الخلود وفي قوة مقاومة فناء الأجناس. الجنس الذي لا يتجدد ويغير آليات اشتغاله محكوم عليه بالفناء والموت والتقهقر. منذ أن خرجت الرواية من رحم الملحمة حسب رؤية جورج لوكاتش التاريخية، والرواية تفتح أذرعها لكل الرياح والثقافات واللغات، معتبرة تغير البنيات الداخلية جزءاً من طبيعتها ومكوناتها، لغاية أن أصبح من الصعب تعريفها وحصرها على شكل واحد ومستقر.
صفتها الشعبية منحتها قدرات كبيرة على التحول والتجدد والاستمرار، على العكس من الشعر الذي ظل «محافظاً» و»أرستقراطياً» لغة وبنية، أي خاصاً بالنخب المنتجة والمستهلكة. حتى عندما حاول أن يتجدد ويخلع عنه كل ما يرجعه إلى «المحافظة» فرِضَ عليه الرجوع إلى الأصل الأول، أي البنية «التقليدية». المعارك التي عاشتها الساحة النقدية والثقافية العربية، وتعيشها حتى اليوم، تعيد الشعر دوماً إلى النموذج الأول الذي لا يمكنه أن يبقى أبد الدهر هو المهيمن والمسيطر. وفق هذا المنطق، ليس الشعر الحر والقصيدة النثرية والإيقاعات السردية في القصيدة إلا ولادات «خديجة» ومحاولات «تغريبية» تجب محاربتها للحفاظ على الصفاء الأول للقصيدة العربية. أي تطور في البنيات الداخلية، موسيقية كانت أو شطرية واختراقية للأوزان التي أنتجتها الإيقاعات الموسيقية المتساوقة مع زمنها، تعتبر «تعدياً» على نموذجية القصيدة العربية.
ولم يسأل سدنة هذا المنطق بأنهم يحكمون بالموت على «الشعرية» العربية بكل خصوصياتها الإنسانية. في زمن موسيقى البلوز، والإرنبي، والراي، والكلاسيك، والكونتري، ودخول الآلات كهربائية وإلكترونية جديدة، من غير المعقول أن تظل هذه الشعرية رهينة خطوات موسيقى الجمال في الصحاري الخالية والقفار الصامتة. لغة الشعر المجازية والاستعارية تحد من شعبيته وتجعله رهين النخبوية التي لا تؤهله للوقوف في وجه عواصف الأشكال الأدبية المتحولة والمستجدة.
الشعر يتطور ثقيلاً ووسط عاصفة من اليقينيات التي لا تمنح فرصة الذهاب بعيداً في أشكاله التعبيرية. نعرف جيداً المعارك التي خاضتها القصيدة العربية حين انتقالها من النموذجية الكلاسيكية، أي شعر الشطرين، إلى حرية التوزيع الداخلي مع الموشح الأندلسي الذي أخرج من دائرة الشعر واعتبر تجربة خارج-شعرية. واستمرت المعركة في الأربعينيات مع الشعر الحر، ولم تدخل قصائد مثل تلك التي كتبها السياب ولاحقاً البياتي، وغيرهما، إلا بشق الأنفس. أما تجربة الماغوط بكل ثقلها الشعري وموسيقاها الداخلية وصورها المدهشة، فليست إلا نثراً لا يرقى إلى الشعر. بهذا المنطق لا يمكن قياس حركية الرواية الداخلية وقابليتها على الاستيعاب بالشعر الذي أغلق على نفسه في دائرة واحدة مثبتة في مركزها النموذجي الذي ضاهى المقدس الذي لا يمس. موت الشعر هو الاختناق داخل النموذج الثابت (عمود الشعر العربي) بكل أشكاله الثقيلة والقاتلة.
ولا قاتل للشعر إلا نقاد الشعر أنفسهم، الذين رفضوا أي تجديد، واعتبروا كل خروج و«انزلاق» عن النموذج المفترض «نقيصة» تجب محاربتها، فأعادوه إلى «بيت الطاعة» بعد أن جردوه من كل ما يصنع «استمراره» وحريته الأدبية. الاختلاف جوهري في أفق «حرية الاستيعاب» بين الشعر والرواية. في حين تظل حدود الشعر مغلقة وحولها العسس المدرب على «تجريم» كل قصيدة حرة، ليس في الموضوع وحده، ولكن أيضاً في البنية/البنيات والمعمار والتشكيل اللغوي لدرجة أن يصبح الشعر «ديناً» في القداسة والثبات، على العكس من الرواية التي اتصفت بـ «الشعبية» التي جعلتها ترتقي نحو الحياة بكل تحولاتها. كلما قيل إن الرواية وصلت إلى سقفها، فاجأت الكل، نقاداً وقراء ومبدعين، بنقلة نوعية جديدة واتساع في داخلها قادر على استيعاب الجديد وإدراجه داخل بنياتها ومنظوماتها الجمالية، فلا مقدس لغوياً وبنيوياً في الرواية.
على الرغم من الصعوبات التاريخية والثقافية والسياسية، فإن للرواية العربية ذاكرة حية تستحق الاهتمام النقدي والبحث الجاد. فقد استطاعت، ليس فقط أن تستدرج الجنس الغربي في مكوناته المعروفة، ولكن أيضاً في تطوره وتوطّنه، بحيث أصبح يستوعب المجتمع والتاريخ العربيين، من دون تنافر كبير. أصبح فيها بعد أن كانت فيه، حتى ولو فرض ذلك كله نقاشاً جديداً. لم تعد الرواية جنساً غريباً بشكل مطلق، وأصبح من الصعب الحديث فقط عن جنس وافد بدون إدراج التحولات البنيوية العميقة التي غيرت، جزئياً أو كلياً، عمق الرواية. فمنظوماتها التكوينية أدرجت، في كثير من نماذجها، الميراث القصصي العربي الشبيه بالميراث العالمي في عمومه، على الرغم من عمليات البتر الذاتي التي تمت تاريخياً، وتعرض لها ذلك الميراث لأنه ظل رهين رؤية الفترة الكولونيالية وحتى ما بعد الكولونيالية، وحمل بعض سمات الأولى على الرغم من رفضه الثقافي والنظري لها. الاختلالات البنيوية في هذا الموضوع تحديداً ستظهر لاحقاً بشكل واضح، عندما حاول الجنس الروائي أن يجد له تاريخاً يتكّئ عليه. على الرغم من أن الآخر الذي كان بعيداً ومفصولاً، وربما عدواً أيضاً، أصبح في فترة ما بعد الكولونيالية، جزئياً في الأنا، ومحركاً إيجابياً لها، ومتأثراً بها، من خلال بعض ما أنجز من روايات وفنون تمت تحت هذا السقف، وهو ما أطلق عليه مصطلح الخلاسية أو التهجين Hybridité . مصدر ذلك هو أن كوكبة من مثقفي بلدان إفريقيا وجزر الكاريبي، وأمريكا الجنوبية، وآسيا، الذين قبلوا بفكرة التهجين، لا يشعرون مطلقاً بضرورة نقد التاريخ الثقافي الاستعماري، ولا يرفضون المسألة التهجينية ويعتبرونها محصلة تاريخية إيجابية يجب الاهتمام بها، والاحتفاء بها كغنى وليس كمعطل ثقافي. لأن الآخر في لحظة من لحظات التاريخ، وعلى الرغم من غلبته العسكرية والثقافية، لم يجد أي ضرر في التأثر بالثقافة العربية أو «الشرق الساحر» الذي شيده لاحقاً قطعة قطعة، وفق أهوائه وحاجاته الثقافية، فأنتج نصوصاً خلاسية غرفت من معين الثقافات العالمية، ومنها العربية. لنا في «ألف ليلة وليلة» نموذجاً حياً في هذا الميراث الذي فرض نفسه على الآخر حتى أصبح مكوناً من مكونات سرديته ومخيالها. يكفي أن نذكر في هذا السياق «دون كيخوتي» لميغيل سرفانتس، وفي «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل پروست، و»الليلة الثانية بعد الألف» لتيوفيل غوتييه، و»مئة عام من العزلة» لغارسيا ماركيز، وبعض نصوص جورجي أمادو، وغيرهم من الذين نقلوا الذاكرة العربية والإسلامية التي بترت في أرضها الشرقية التي أنجبتها، واستؤصلت من ذاكرتها السردية بفعل مجتمعي قسري مسبق وديني، في اتجاه ثقافاتهم، ووجدان شعوبهم، لدرجة أنْ شكّل هذا النص واحدة من أجمل اللحظات الإنسانية وأكثرها ارتقاء ثقافياً التي يؤثر فيها الضعيف والمنهزم عسكرياً والمستعمَر، في القوي من خلال نماذجه الأكثر شيوعاً وتأصلاً. قراءة بسيطة تبين قوة هذا النص السردي في نصوص الآخر، مسهماً في صناعة إنسانيته بمعطاها الجوهري الذي ارتكز على الحرية، حرية الفرد وحرية الإبداع.