العراق: عودة التجنيد الإلزامي
لطالما أثار موضوع مكانة الجيش في المجتمع العراق جدلا وصراعا حول أفكار وشعارات تتلبس بلبوس الوطنية، وتنمية قيم الرجولة، وخدمة العلم، وغيرها من هذه المفاهيم، ولطالما أشار كتاب وباحثون إلى أن سن قانون الخدمة الالزامية في الجيش العراقي سيمثل خطوة نحو صهر المكونات المجتمعية في جيش تختفي فيه الفروقات والنزعات الطائفية والقومية التي تكرست منذ عشرين عاما.
تعليقا على الموضوع، غرد رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي قائلا؛ «إنَّ المضي بتشريع قانون خدمة العلم يضمن إعداد جيلٍ من الشباب أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة، مُلِمٍّ بالحقوق والواجبات، ومتحفِّز لحفظ الدولة وسيادتها، ويسهم في تعزيز منظومة القيم والأخلاق والانضباط والالتزام بالهُوية الوطنية». بينما غرد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي على حسابه في تويتر بالقول: «أنجزنا اليوم ما تعهدنا به منذ لحظة تسلمنا المسؤولية أمام شعبنا والتاريخ بإقرار خدمة العلم، التي ستكرس القيم الوطنية في أبنائنا». المفارقة المضحكة المبكية أن الحلبوسي والكاظمي المتحمسان لإقرار قانون «خدمة العلم»، لم يخدما يوما واحدا في الجيش العراقي!
يدفع الداعمون لإقرار قانون الخدمة العسكرية الإلزامية في العراق بالقول، إن الجيش العراقي بات يعاني منذ الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003، من مشكلة التوازن في بنائه، وإن الوجود الشيعي فيه بات هو السمة الغالبة، نتيجة سيطرة القوى الشيعية على تشكيل الجيش الجديد مع إلغاء قانون التجنيد الإلزامي، ما يعني إمساك الأحزاب والحركات الشيعية بمركز القوة في تشكيل الدولة مع تهميش القوى السنية في المؤسسات العسكرية والأمنية المهمة، وغياب الكرد عنها نتيجة وجود جيش كردستاني مستقل هو البيشمركة. من طرف آخر يدافع رافضو فكرة إعادة العمل بقانون الخدمة الإلزامية في العراق بقولهم إن هذه المؤسسة التي تضخمت في العراق بشكل كبير في السبعينيات، وأصبحت مليونية إبان حرب الثمانينيات استهلكت خيرات البلد، ولم تقدم للوطن سوى النكبات عندما تحول الجيش إلى أداة بيد النظام القمعي، يزجه في حروبه ومغامراته الخارجية، ويستخدمه في قمع الانتفاضات الداخلية، وبالتالي فإن إنشاء جيش احترافي مكون من قوات قليلة العدد، عالية التدريب هو ما يحتاجه العراق للدفاع عن نفسه في وجه الأخطار والتهديدات الخارجية. وتفيد مصادر في مراكز الدراسات العسكرية بأن العراق يعاني من زيادة في أعداد المتطوعين والضباط في الوقت الحالي، إذ أن هناك أكثر من مليون عسكري في مختلف صنوف الأجهزة العسكرية والأمنية، إضافة إلى منتسبي الحشد الشعب، لذلك صرح بعض المدونين بالقول: «هناك مليون ومئتا ألف عنصر أمني في العراق من جيش وشرطة وحشد، فما فائدة التجنيد الإلزامي سوى زيادة العبء على الخزينة، ومعالجة كاذبة للبطالة، وفتح باب لسرقة أموال الدولة، وقد يفتحون حربا عبثية لا طائل من ورائها سوى قتل الشباب». لكن يبدو أن البرلمان العراقي في دورته الحالية قد صعد موضوع إقرار قانون الخدمة الإلزامية في الجيش، وهو قرار طالما طرح كفكرة لم يكتب لها النجاح في الدورات البرلمانية السابقة، إذ صرح نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع البرلمانية في البرلمان الحالي، النائب سكفان يوسف، بالقول إن، «مشروع قانون الخدمة الإلزامية جاهز، ومن المقرر إرساله إلى رئاسة البرلمان، لقراءته وإقراره»، مبيّناً، في تصريحات للصحافيين؛ أن لجنته «انتهت من إعداد مشروع القانون، وأن السبب في تأجيل قراءته هو عدم انعقاد جلسات البرلمان خلال الفترة السابقة، وأنّ لجنته تعتزم إرسال القانون إلى رئاسة البرلمان، من أجل إدراجه في جدول الأعمال». كما رجّح عضو لجنة الأمن والدفاع النائب كريم شكور أن يتم إقرار مشروع قانون الخدمة الإلزامية خلال الدورة الحالية لوجود شبه إجماع برلماني على تشريعه، فيما أشار إلى أن تطبيقه سيكون بعد سنتين من تاريخ إقراره ونشره في الصحيفة الرسمية.
بعض وجهات النظر قرأت طبيعة القانون الجديد على أنه باب جديد من أبواب الفساد الذي ينخر جسد الدولة العراقية سيفتح على مصراعيه
بعض وجهات النظر قرأت طبيعة القانون الجديد على أنه باب جديد من أبواب الفساد الذي ينخر جسد الدولة العراقية سيفتح على مصراعيه، وسيجني منه الفاسدون مليارات جديدة سيقتطعونها من لقمة المواطن العراقي، وكانت الأرقام الفلكية للمنتسبيين الوهميين في الجيش الجديد تحوم في هذه النقاشات، إذ ذكر البعض كشف حكومة العبادي عن ملفات فساد في الجيش العراقي إبان ولايتي المالكي الرئاسية، إذ كشفت التصريحات عن وجود أكثر من خمسين ألف اسم وهمي مسجل في قوائم المرتبات والارزاق والتسليح، عرفوا في العراق إعلاميا باسم (الفضائيين) في الجيش العراقي، وعزا البعض نكسة الجيش العراقي أمام هجمة تنظيم الدولة (داعش) الإرهابي في صيف 2014 إلى حجم الفساد الذي نخر جسد المؤسسة العسكرية، إذن كيف يمكن أن نثق بهذه الطبقة السياسية وندعهم يزجون ملايين الشباب في مؤسسة تعاني من كثير من المشاكل لم يتم حلها؟
القانون الجديد وبحسب التسريبات والتصريحات الإعلامية لعدد من المسؤولين العراقيين يشير إلى أن «من يشمله القانون سيلتحق بأداء خدمة العلم، وسيتقاضى راتباً قدره 700 ألف دينار عراقي (نحو 500 دولار)»، كما نشرت وكالة الأنباء العراقية نص «مشروع قانون خدمة العلم» المقدم من أمين عام مجلس الوزراء حميد الغزي، لرئيس البرلمان محمد الحلبوسي، تمهيدا لاعتماده. ويشير مشروع القانون المقدم إلى أن الخدمة العسكرية ستتراوح بين 18 شهرا و3 أشهر حسب المؤهل العلمي، إذ أن على كل عراقي من الذكور أكمل 19 عاما ولم يتجاوز 45، الخضوع للتجنيد الإلزامي مع استثناءات محدودة. ويجند 18 شهرا من أكمل الدراسة الابتدائية أو لم يلتحق بالمدرسة، بينما تقل المدة إلى 12 شهرا لخريجي المرحلة الإعدادية. وتنخفض المدة إلى 9 شهور بالنسبة للمتخرجين من الكليات والمعاهد التي لا تقل فيها الدراسة عن سنتين، فيما تصبح 6 شهور لحاملي درجة الماجستير، و3 شهور لمن نال درجة الدكتوراه. ويعفى البعض من «خدمة العلم» لأسباب وشروط بينها مشروع القانون، كذلك يعفى من الخدمة الإلزامية المكلف الذي يدفع البدل النقدي، ولم توضح الوثيقة قيمة البدل النقدي الذي يعوض الخدمة العسكرية، ما يعني ضمنا أن الأثرياء المتمكنين ماليا سيحمون أولادهم من الخدمة الإلزامية بدفع البدل النقدي، بينما سيتم تجنيد الفقراء ممن لا يستطيعون دفع هذا المبلغ، وهذا الأمر بحد ذاته يعد تميزا، ويضرب فكرة المواطنة القائمة على تساوي الحقوق والواجبات بين الجميع في الوطن. وقد علّق أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية عصام الفيلي في هذا الشأن بقوله: إن الخدمة الإلزامية استنزاف للأموال وعسكرة للمجتمع وزيادة لأزمات ومشكلات العراق». وأضاف، في «الوقت الحالي لا يوجد استخدام للمشاة بشكل كبير، وإذا استخدم هذا الصنف فيجب أن يكون أفراده بتحصيل عال من الدراسة في ظل التطور العالي، كما أن القانون في حال إقراره وتطبيقه بصيغته المطروحة سيعمق الفوارق الطبقية، لأن أولاد الأغنياء لن يخدموا بعد دفعهم البدل المالي، ومن سيخدم فقط أبناء الفقراء». ويشير عدد غير قليل من الكتاب والمدونين إلى ضرورة إقرار قانون الخدمة العسكرية الإلزامية في العراق، ويعلقون على الأمر بأنه سيمنع السلوكيات المنحرفة من فساد أخلاقي وميوعة وانحرافات جنسية بين الشباب، وسيخلق من الشاب رجلا يتحمل المسؤولية، ويقف صلبا في مواجهة الصعوبات التي قد يواجهها في الحياة، وقد رد كثيرون على هذا الرأي وقدموا تفسيرات كثيرة للموضوع، وربما اختصر هذه الآراء الإعلامي صالح الحمداني في تغريدته على تويتر التي قال فيها: «لو يصرفون فلوس التجنيد الإلزامي على المدارس، سيخرج جيل أفضل من اللي راح يخرج من جوه أيد العرفاء»، مستدركاً: «ما دام هناك مشرعون يفكرون بعقود إطعام الجيش أكثر مما يفكرون بمصلحة البلد، فسينتصر معسكر التدريب على المدرسة».