هل نصدق الرئيس الأمريكي؟
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في مؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين للمناخ، عن «مبادرات جديدة لتعزيز القيادة الأمريكية في معالجة أزمة المناخ وتحفيز العمل والالتزامات العالمية». مؤكدا أن الولايات المتحدة « تتابع التزاماتها ومبادراتها الحالية»، لدعم «الشركاء في البلدان النامية الضعيفة لمواجهة التغيرات البيئية، ومساعدتهم على التعامل مع مشكلة لم يخلقوها».
ويأتي الإعلان عن المبادرات الجديدة في وقت حذر فيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، البشرية من «انتحار جماعي». مما يضفي على المبادرات الأمريكية أهمية قصوى تستوجب الترحيب الرسمي والشعبي، معا، باعتبارها ستنقذ البشرية من الانتحار. فلِمَ، إذن، بقي الترحيب محصورا في محيط رؤساء الدول الذين حضروا المؤتمر، مقابل أصوات المحتجين من ناشطي المنظمات والعلماء والحركات المعنية بالتغير المناخي والبيئي، المتنامية في أرجاء العالم؟
هناك أسباب عدة لتردد هذه المنظمات في الإسراع للترحيب بالمبادرات الأمريكية على الرغم من سخاء الخطاب الأمريكي والأصح هو أن الخطاب نفسه سبب رئيسي للتردد. إذ يبين تحليل اللغة المستخدمة في الخطاب وما سبقه من تصريحات رئاسية «سخية» تُطلق في مؤتمرات المناخ الدولية، تناقضا هائلا، عند مقارنتها بمدى الإنجازات الحقيقية للوعود في العالم، كونها مرتبطة ارتباطا وثيقا باستثمار وأرباح شركات النفط والغاز الرئيسية في أمريكا، والتي تُشكل، بجانب صناعة السلاح والدواء، العمود الفقري للواقع الاقتصادي والسياسي الأمريكي ويُشكل جوهر السياسة الخارجية.
أفادت دراسة نشرتها دورية « بلوس وان» العلمية أن كبرى شركات النفط والغاز الأمريكية والبريطانية، وهي شفرون وأكسون موبايل وبي بي وشل، فشلت في دعم أقوالها وتعهداتها بشأن تغير المناخ بإجراءات واستثمارات حقيقية بينما تضاعفت إشاراتها إلى تغير المناخ والطاقة منخفضة الكربون ثلاث مرات تقريبًا في تقاريرها السنوية المنشورة في العقد الماضي. مما يجعل هذه الشركات لا تختلف كثيرا عن الرئاسة الأمريكية في إطلاق وحتى توقيع التعهدات بخفض الانبعاثات والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة بينما لا يحدث أي تغير. إذ تواصل جميع الشركات الأربع التركيز بشكل أساسي على إنتاج الوقود الأحفوري لتجني أرباحا قياسية، بغض النظر عما تحدثه عملياتها من أضرار تنوء تحت تأثيرها الأكبر بلدان الجنوب التي يسميها بايدن « البلدان النامية الفقيرة» والتي يتصارع الغرب على استغلال مواردها الطبيعية وتنفيذ مشاريع استخراج النفط والغاز من الصخور الزيتية فيها.
أمريكا توقع أكثر من مائتي معاهدة كل عام حول مجموعة من القضايا الدولية، بما في ذلك السلام والدفاع وحقوق الإنسان والبيئة، إلا أن هذا لا يعني التزامها بالتنفيذ
تلاقي هذه المشاريع معارضة كبيرة، تصل إلى حد العنف، وتستقطب الشباب والعلماء في البلدان الغربية، كما في حركة «علماء متمردون» الذين يرون أن التنقيب عن النفط والغاز من الصخور الزيتية في مناطق غير مستغلة سابقًا هو «جريمة ضد الإنسانية» بسبب الضرر البيئي الذي يلحقه ويطالبون بوضع حد فوري لمشاريع الحفر الجديدة.
الملاحظ امتداد المعارضة، في الأعوام الأخيرة، إلى البلدان العربية. حيث برز ناشطون يجمعون بين العدالة البيئية والمناخية والسيادة، ويقودون حملات توعية بأضرار مشاريع الحفر التي تتم بواسطة تكسير الصخور الزيتية وتحرير الغاز المنحبس بضخ كميات كبيرة من الماء المخلوط بالرمل والمواد الكيمياوية مما يسبب بالنتيجة تلويث المياه الجوفية. وإذا كانت المياه الجوفية هي المصدر الرئيسي لديمومة الزراعة والحياة عموما في العديد من بلداننا فإن وقود الصخور الزيتية هو المصدر الرئيسي لعدد من شركات النفط الكبرى ومن بينها توتال أنيرجيز الفرنسية (توتال سابقا)، التي يشكل 91 من إنتاجها و71 بالمئة من استثماراتها الحالية ويبلغ إجمالي مبيعاتها 184.7 مليار دولار لعام 2021.
لم يعد هناك أي شك في تحمل الغرب، مسؤولية الانحباس الحراري وتغير المناخ. وتقع المسؤولية الأكبر على أمريكا لأنها أكبر منتج للغاز في العالم من الصخور الزيتية منذ عام 2009، وأكبر مستهلك له أيضًا، بالإضافة إلى كونه مصدر ربح ترحب به الشركات والحكومة وسبب للازدهار الاقتصادي. بين عامي 2015 و2020، وصل مردود الوقود الأحفوري ما يقرب من 138 مليار دولار سنويًا. في ذات الوقت الذي أثبتت فيه البحوث العلمية تسببها في تغيير النظم الإيكولوجية للمحيطات وتلوث مصادر مياه الشرب بواسطة المواد الكيمياوية السامة المستخدمة لاستخلاص الوقود من الصخور الزيتية، وهي حقيقة لم تكشفها وكالة حماية البيئة الأمريكية للعموم لأنها كانت قد منحت عملية الاستخلاص والسوائل المستخدمة فيها، حتى إذا وُجدت في مياه الشرب، إعفاءً من قانون مياه الشرب الآمنة في عام 2005، وذلك حين شرعت شركة هاليبرتون بالعمل في مجال الاستخلاص وكان ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، رئيسا لها.
من الطبيعي إذن، ألا تعمل الإدارة الأمريكية، متمثلة برئيسها، خارج شبكة الشركات الكبرى بل إن تماشيها في إطلاق المبادرات بشكل تصريحات ووعود حرصا على أمنها الاقتصادي والسياسي، لأن تزايد تطور الطاقة النظيفة، سيؤدي إلى انحسار تدفق الإيرادات وما يترتب على ذلك من تأثيرات كبيرة داخليا. وما يستحق الذكر هنا أن أمريكا توقع أكثر من مائتي معاهدة كل عام حول مجموعة من القضايا الدولية، بما في ذلك السلام والدفاع وحقوق الإنسان والبيئة، إلا أن هذا لا يعني التزامها بالتنفيذ بالإضافة إلى امتناعها عن التوقيع أو التصديق على المعاهدات التي يدعمها بقية العالم. بل أن أمريكا تمتلك أحد أسوأ السجلات في التصديق على معاهدات حقوق الإنسان والمعاهدات البيئية.
إزاء ترسانة المصلحة المشتركة بين مجموعات المصالح الخاصة ورغبة السياسيين في الحفاظ على سلطة الحزب الذي ينتمون إليه، بالإضافة إلى المخاوف القائمة بشأن السيادة، وحماية حقوق الشركات الأمريكية ونفوذ شركات النفط الكبرى وامتداداتها، سواء في أمريكا أو الغرب عموما، لا يبقى أمام شعوب الجنوب، المحكومة بأنظمة فاسدة، إلا توسيع شبكات تعاونها مع منظمات وحركات العدالة البيئية والسيادة، خاصة في بلدان الترسانة، والعمل على إحداث التغيير بنفسها، إذا أرادت وضع حد لمأساة التلوث والجفاف والتجويع ألتي باتت واقعا وليس فيلم خيال علمي يتصارع فيه الناجون من الخراب على بضع قطرات من الماء.