عصا المايسترو السوري والحماقات السحرية
لم تكد صغيرتي تنطق كلماتها الأولى حتى ركضتُ بها إلى جوقة موسيقية غنائية كبرى في دمشق، ولم يكن من السهل، في تلك الحقبة (قبل أحد عشر عاماً)، العثور على كورال موسيقي احترافي لصغار السن، وربما حتى لكباره. وقد حدث أن حظينا بكورال يغطي مختلف الأعمار، من عمر الثلاث سنوات وحتى السبعين. كان شيئاً مفرحاً بالفعل. كنا ننتظر بشوق وعداً قريباً بأن نرى صغيرتنا على خشبة المسرح، تغني مع أترابها بقميص أصفر وتنورة كحلية اللون.
ثابرنا أسبوعياً على قطع مسافة لا تقل عن عشرين كيلو متراً، حتى أن الحرب باغتتْنا ولم نتوقف عن مشوارنا ذاك، وقد كان، على أي حال، رحلة سعيدة برفقة الصغيرة إلى قلب دمشق. التجربة برمتها كانت تحتوي على تفاصيل حلوة، فالمكان هو كنيسة كبرى في حي دمشقي عريق، شرقي المدينة، ولأن أطفالنا ما زالوا في سنواتهم الغضة الأولى فقد استلزم الأمر أن يبقى الأهالي جميعاً معهم أثناء التدريب، وكنا نسيّجهم بحلقة أخرى من ورائهم، كما لو كنا في مسرح الشمس، نراقب أطفالنا، نَلُمّ كل تفصيل، كلمة، نغمة، إيماءة تقع في فضاء القاعة، وبالطبع كانت قلوبنا سلفاً ترقص لهم، كما كنّا، نحن الأهالي، نتقابل وجهاً لوجه في خلفية المشهد، فالفرجة مضاعفة، نرى أطفالنا، ونرى خلفهم سعادة الأهل، ابتساماتهم وحنانهم (أحياناً نشفق على أنفسنا من فرط هذه العاطفة).
الصغار جميعاً كانوا جبارين، من شدة انضباطهم سقط في تلك الحفلة ما لا يقل عن اثنين منهم أرضاً، تماماً كما كان يحدث لعساكر النظام المنضم المصلوبين تحت شمس الصيف القاسية عندما يتساقطون على الإسفلت مثل خشبة.
لكن، في قلب كل ذلك، كان هناك منغص صغير مفاجئ، فعلى الرغم من أن المايسترو كان في منتهى خفة الدم، إلا أنه هنا أصبح شخصاً آخر، «يشخط» ويصرخ و»يبهدل»، من دون أي حساب لعمر أو رقّة أو هشاشة، يده دائماً على قارورة الماء لرش وجه طفل باغتته غفوة أو نعاس، وربما لفركة أذن على أقل الأسباب، والذريعة دائماً هي أن لا بد من هذه الصرامة لئلا يفلت الطفل غداً أمام الجمهور في الحفل الحقيقي، وتصعب، حينها، السيطرة عليه. لم نكن راضين عن كل ذلك، ولعلنا كنا نعوّل على أن صغيرتنا من الصغر والهشاشة بحيث أنه لا يمكن أن ينالها نصيب من ذلك الرعب. لكننا لم نحسب حساباً أن الأهالي أنفسهم يمكن أن يتعرضوا كذلك لتعنيف، مثل أطفالهم. البعض سيكرر عبارات سورية شهيرة في مثل هذه الحالات: «بتمون»، و»اللحم إلك والعظم إلنا»، إلى سواها من عبارات تنتمي إلى زمن الكتاتيب.
جاء الحفل أخيراً، اصطف أطفال الكورال المعبودون في ثلاثة صفوف متدرجة، كل واحد منهم مثل الألف، ارمِ الإبرة تسمع رنّتها من شدة الالتزام والصمت. لا تلويحات (أصلاً لطالما شدّد المايسترو على هذه النقطة بالذات)، ولا توزيع ابتسامات، ولا وشوشات جانبية. لأن وشوشة وراء أخرى تحوّل المسرح إلى حمّام مقطوعة مياهه.
كانت صغيرتنا في منتصف المشهد، وفي الصف الأول، عيوننا لا تتزحزح عنها، فيما عيناها مشدودتان نحو المايسترو في انتظار كل تعليمة جديدة. قلبي على ولدي، وقلب ولدي يدقّ رعباً من المايسترو. إذاً فقد ابتدأ الغناء: «نيال قلبك يا كرشي، إذا كل يوم بتاكل كوسا محشي». و»بليلة من آذار، مدري شو اللي صار» و»واحد طالع عالجبل ع حصانو…».
الصغار جميعاً كانوا جبارين، أبدوا التزاماً مذهلاً، ومن شدة انضباطهم سقط في تلك الحفلة ما لا يقل عن اثنين منهم أرضاً، تماماً كما كان يحدث لعساكر النظام المنضم المصلوبين تحت شمس الصيف القاسية عندما يتساقطون على الإسفلت مثل خشبة. ومع ذلك، لم تحدث أي فوضى على المسرح، جاء من يلمّ الخشبات الصغار بكل هدوء، وينسحب كذلك، كما لو أنهم تدرّبوا طويلاً على السقوط.
انتهى الحفل، صفقنا من شدة الإعجاب، صفقت قلوبنا، أعمارنا كلّها صفقت. وظللت بعدها لسنوات أضع صورة الكورال الأصفر المضيء على صفحتي في فيسبوك.
انتهى كل شيء، ركضنا إلى الكواليس، تلقينا التهاني بالنيابة عن أطفالنا، وما أن حملتُ ابنتي حتى راحت تبكي بحرقة توجع القلب، وفيما كنت أسألها مما تشكو قالت والدة إحدى البنات لا بدّ أنه التعب، ليس سهلاً بالنسبة لطفل تحمّل وقت البروفة الطويل، ثم بعدها هذه الوقفة الصارمة على خشبة المسرح لما يقارب الساعتين.
لا أسامح نفسي على زجّ الصغيرة في أتون (نعم أتون) تلك التجربة، إعجابي لسنوات بصورة الكورال تحوّل مع الأيام إلى إشفاق كبير. اُنظر إليهم، لقد «أَسْبَلُوا» أيديهم إلى جانبهم، تماماً فوق دَرْزَتَي خياطة البنطلون الجانبيتين، فيما العيون كالسهام نحو المايسترو. طفلة واحدة شقية تجرأت على التبسّم لوالدتها، وأخرى انشغلت عن المايسترو لسبب غير مفهوم. يا لها من صورة تفسّر الآن بوضوح ذلك الزمن!
حتى في قاووش «ملح وسكّر» استطاع المساجين، رغم أنهم في الأغلال، التمايل وهزّ الأكتاف والتصفيق والضحك، وسُمح لبعضهم الرقص في الحلبة، بل إن غوار نادى على حبيبته بصوت عال ولوّح لها.
في الصورة بدا الأطفال شكلاً من أشكال العسكر، ولا يبدّل شيئاً من حقيقة المشهد استبدال الأصفر بالكاكي، فيما المايسترو، شكل من أشكال مدربي الفتوة في المدارس (كانوا يأتون بمدرب لمادة اصطلحوا عليها اسم التربية العسكرية، هو مفروز غالباً من الجيش إلى المدارس).
حتى في قاووش «ملح وسكّر» (مسلسل كوميدي قديم بالأبيض والأسود) استطاع المساجين، رغم أنهم في الأغلال، التمايل وهزّ الأكتاف والتصفيق والضحك، وسُمح لبعضهم الرقص في الحلبة، بل إن غوار نادى على حبيبته بصوت عال ولوّح لها (إن لم تخنّي الذاكرة).
ليس لهذه النظرة إلى مايسترو الفرقة أي علاقة بموقف سياسي له مع النظام أو ضده، فعلى مقربة من هذا الكورال، وفي الجهة الغربية من دمشق، حدث لاحقاً أن شكّلت زميلة لمايسترو الكنيسة فرقة أخرى، لا نحسب أن لها موقفاً ما ضد النظام، وربما من دون قصد بدا ما فعلته مع كورال الأطفال الجديد كما لو أنه رد على أسلوب صاحبنا.
المايسترو الشابة عملتْ، على المستوى الموسيقي، بحرفية بالغة، كان هذا رأي موسيقيين محترفين آخرين سلّموا أبناءهم لزميلتهم. لكن الجديد ليس هنا، بل في الحرية التي أعطتها المايسترو الجديدة للأطفال، الأمر الذي ظهر على خشبة المسرح في الحفل الختامي. لقد تُرك الأطفال، الذين تدربوا لشهور على مقطوعات موسيقية وأغان، على سجيتهم تماماً، من دون ضرورة الانشداد الصارم إلى عصا المايسترو. لوّح الأطفال لأمهاتهم وآبائهم، بل نادوا عليهم بصوت مسموع، بعضهم لم يفعل شيئاً سوى البحث عن أمه بين الجمهور، ارتكبوا حماقات عديدة، تداخلوا، توقفوا عن الغناء أو العزف فجأة، ورأينا بأم العين المشرفين من وراء الكواليس يحثّونهم، من دون أمل، على العودة إلى الغناء.. كانت حماقاتهم تلك أكثر ما أسعد الجمهور، الذي لم يكن في النهاية سوى الأهالي. كانت تلك هي الحماقات السحرية التي سيحفظها (ربما) الآباء والأمهات للأيام، وصدِّقْ، لن يتحدث أحد عن مقدرة الطفل الهائلة في تلك الحفلة على الغناء أو العزف، لن يتحدث أحد عن أطفال منضبطين تحت ظل عصا المايسترو.. ولا عن التزامهم الصارم بدرزتي البنطلون الجانبيتين، بل إن كل ذلك بالذات هو ما يجعل النظر إلى الصورة مجدداً اليوم مليئاً بمشاعر الحزن، والإشفاق، واللوم والندم.