«عشّ القراصنة» الذي أنقذ سرفانْتِس»
عود على بدء. هل كان سرفانْتِس رجلاً محظوظاً؟ دون شك، نعم. لقد خرج من دوامات قاتلة، الواحدة أسوأ من الأخرى. صدف الحياة تكاثرت معه حتى أصبحت قانوناً. فقد نجا بأعجوبة من حرب «ليبانت» حيث فقد ذراعه اليسرى. شارك في الهروب باتجاه ورهان مع مجموعة من أصدقاء، لكن يلقى القبض عليهم ويعدمون كلهم، سرفانتس وحده من نجا من مجزرة الإعدام بتدخل شخصي من الحاكم حسن فينيزيانو. كان سرفانتس في حروبه الدينية ضد الدولة العثمانية تحديداً، ينتظر متى يتم الهجوم على الجزائر لإبادتها، فهي «عش للقراصنة». الذي حدث هو العكس، فقد وجد الكثير من حريته وهو سجين في الجزائر العاصمة، بتعبيره في كتبه: «دون كيخوتي» وفي «سجون الجزائر» و«الحياة في مدينة الجزائر»، وفي قصصه القصيرة: «قصص نموذجية» التي جسدت علاقته بقوة مع الجزائر «العثمانية»، في تناقضها وترددها. فقد كان سجيناً، ويسمح له بالخروج في أوقات فسحته، وعندما اشتراه حاكم الجزائر، حسن باشا، أصبح سيد القصر إلى أن تم تحريره بفدية.
هناك صدف غريبة حكمت حياة سرفانتس، قليلاً ما تحدث عنها المؤرخون، وهي التي ستسمح له بالعودة إلى إسبانيا، وكتابة نصه الاستثنائي: دون كيخوتي. في 29 ماي 1580 يصل الأخ خوان جيل إلى الجزائر بصحبة الأخ أنطون دي لا بلا Fray Anton de la bella بهدف إنقاذ الرهائن. وجدا مدينة تستيقظ بصعوبة من مأساة المجاعة التي أصابتها، والتي حصدت أكثر من 5000 شخص في شتاء واحد. وبدأ رجلا الدين الحوار والاتصالات مع البحارة وحسن باشا، ولكن بدون جدوى؛ لأن الحروب البحرية ضد السفن الغربية المسيحية كانت طاحنة وعادت من جديد لتحتل الواجهة. استطاع الرجلان أن يشتريا أكثر من مئة رهينة، ولكن سرفانتس لم يكن في حسابهم. وكان الوقت ضيقاً لأن حسن باشا المتعاطف مع سرفانتس جداً، ويعرف خبايا كل المفاوضات، كان بدوره يستعد للعودة إلى تركيا بعد انتهاء مهمته كحاكم للجزائر، ومعه رهينته المقربة منه. اقترح حسن باشا استرجاع نقوده فقط التي اشترى بها سرفانتس، أي 500 أوقية ذهب، وطلب 1000 أوقية على جيرونيمو دي بالافوكس Jeronimo de Palafox. ونظراً لعدم توفر السيولة الكافية، قرر الأخ خوان جيل شراء سرفانتس. كان في حوزته 280 أوقية ذهب، أضاف عليها 200 أوقية أخرى انتزعها من مخزون التثليثيين بعد استشارات معقدة، ثم ذهب مباشرة نحو قصر الباشا الذي كان قد غادر باتجاه ميناء الجزائر استعداداً للعودة إلى القسطنطينية. في 19 سبتمبر 1580 عندما كان الباشا يستعد لمغادرة الجزائر في صحبة رهينته وصديقه، وينتظر تحول اتجاه الرياح، حدث الذي لم يكن في الحسبان. في تلك اللحظة بالضبط، يصل الأخ خوان جيل، ويوقف السفينة ويضع في يد الباشا 500 أوقية ذهب التي طالب بها مقابل التخلي عن سرفانتس. وينزله من السفينة لتبدأ رحلة حياة أخرى لم تكن أقل شططاً، لكنها فتحت بوابات النجاح أمام سرفانتس ليصبح قيمة ثقافية عالمية. محاكم التفتيش لم تكن تنظر بعين الرضى إلى علاقات سرفانتس مع الجزائريين ومع الحكام العثمانيين في الجزائر. فكان على سرفانتس حل مشكلته مع بلانكو دي باث، مفوض محاكم التفتيش المقدس، الذي اتهمه تهماً خطيرة أقلها يقوده مباشرة إلى المحرقة، كالتعاون مع الباشا، واعتناق الإسلام، والعلاقة المثلية مع حسن باشا، والتعاون المشبوه مع حاجي موراتو (حاج مراد). حتى يحمي نفسه من غطرسة بلانكو دي باث، طلب سرفانتس في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، بإجراء تحقيق حول وضعيته، حتى يتمكن من العودة إلى إسبانيا بلا تهم على عاتقه. وقد شهد في صالحه 12 شخصاً، بحضور الأخ خوان جيل، دافعوا عن حسن سلوكه في السجن أو خارجه، وانضباطه وحبه لدينه وملكه. الوثائق المتبقية من هذه المرافعات مهمة، لأنها تظهر لنا بالفعل جزءاً من حياة سرفانتس الصعبة في الجزائر. كانت هذه الشهادات وسيلته للدفاع عن نفسه والانفلات من مخالب محاكم التفتيش المقدس. في 24 أكتوبر يستقل سرفانتس سفينة مايس أنطون فرانسيس Maes Anton Francès، باتجاه إسبانيا بعد خمس سنوات غياب في الجزائر. وفي فجر 27 من الشهر نفسه، تظهر علامات الأراضي الإسبانية في الأفق، وشمال أليكانت، واضعة أمامه أملاً كبيراً في استعادة حياته الأولى. بعد نزوله في دينيا Denia لمدة ثلاثة أيام، واصل سرفانتس الرحلة باتجاه فلانسيا، ثم مدريد. وقد منح لهذه الرحلة مساحة عريضة في مسرحيته: «الحياة في الجزائر».
الجزائر (عش القراصنة) لم تفتح لسرفانتيس فقط الآفاق الواسعة لمعرفة بلد لم يتلقه إلا من الدعاية الدينية المسيحية، ولكن سمحت له أيضاً بالذهاب بعيداً فيما سيصبح لاحقاً مشروعه الحياتي: «دون كيخوتي دي لامانشا». لم يخل نص من نصوصه من علامات هذا المصير الاستثنائي الذي سيحوله إلى أهمّ كاتب عرفته البشرية.
في 1605، أي بعد ثلاثين سنة من سجنه بالجزائر يوماً بيوم، يصدر سرفانتس نصه الخالد «دون كيخوتي دي لامانشا»، الذي لم يؤسس فقط لجنس سيصبح بعد قرون سيد الأجناس الأدبية كلها، الرواية، ولكنه أسس كذلك للسيرة الذاتية كفنّ مستقل في الكتابة، إذ نجد في رواية دون كيخوتي الشعبية صدى كبيراً لحياته الخاصة في جزائر نهايات القرن السادس عشر، إذ خصص لذلك العديد من الفصول التي يتماهى فيها مع تجربته التي حولته وأعادت بناءه، من متطرف ديني مناصر للحروب الدينية، إلى رجل متعقل في كل شيء ومتسامح إلى حد كبير. وسيلته المدمرة ضد أعدائه: السخرية والتهكم.
تحتاج اليوم نصوص سرفانتس العظيمة إلى إعادة قراءة وتأمل دقيق، تضع الجهد العربي الذي استفاد منه هذا الكاتب العبقري باعترافه هو نفسه، في المكان الذي يليق به. لكن هذا لا يكفي، فهناك علامات وظلال تستحق المعالجة. صدى النصوص السردية العربية واضح ويستحق الاهتمام. هناك نظام أدبي أو ما نسميه اليوم شعرية خاصة في الكتابة الأدبية السردية، في العنونة، وفي العتبات، وفي الخواتيم، والجمل البدئية والختمية، والتخييل، نجدها في أغلب النصوص السردية، ابتدعه العرب القدامى من خلال تجاربهم المميزة منذ القرن العاشر حتى بداية الانهيار المملوكي والعثماني والاستعمارات الحديثة، وكتبوا نصوصهم على منواله. لا يمكن أن يكون ذلك كله محض وقوع الحافر على الحافر، وصدفة عابرة. العودة إلى النصوص العربية المؤسسة يضعنها أمام السؤال المقلق والمحرج: ماذا فعلنا بذلك الميراث العربي والإنساني العظيم؟ لا شيء، بل طمسناه وركبنا القاطرة الغربية السهلة وافترضناها مركز المعارف الثقافية والحضارية كلها، على العكس من الآسيويين والأمريكيين الجنوبيين الذين عادوا إلى ثقافتهم الهندية (الهنود الحمر) ونهلوا منها مخيالهم الغني والعظيم الذي ارتفع بالرواية إلى مصاف العالمية وخلقوا مدرسة قائمة بذاتها هي الواقعية السحرية إلى جانب الواقعية الأوروبية، الذي لم تمحه لا الكنيسة التي جردت الشعب الهندي من تاريخه وأديانه، ولا ثقافة التمسيح القسري وفرض النموذج الغربي الذي حاول محو كل المعالم التاريخية والحضارية السابقة له.