د. نادية هناوي
ليس من اليسير بناء صورة لتلك الكينونة التي نتطلع أن تكونها ثقافتنا في غدها القريب أو البعيد؛ لكن نظرة متمعنة في الحاضر بإمكانها أن تقلِّب الأمور على مختلف جهاتها وتستغور الظواهر على عواهنها وتفتش عن الجيد المرغوب وتنبذ السيئ المطروح عبر أطر واستراتيجيات محددة وبما يجعل مهمة التطلع والاستشراف أقل غموضاً وأيسر استعصاءً. فترتسم في إذهاننا ملامح ثقافتنا القادمة ومناحيها وتتضح كينونة المتحلين بها برؤى وتعيينات عملية، وقد تمظهروا بحلل جديدة تتجاوز المؤاخذات وتتعالى على السلبيات.
ولعل أهم التطلعات التي نتوسم وجودها في ثقافة الغد هي المصداقية في أن تكون ثقافتنا في استراتيجياتها ونظرياتها قابلة للتطبيق متوازنة وحيادية لا تتحزب لجهة ولا تتكتل لأجل أخرى، ولا تتمايز بالقطيعة أو التصنم، بل تواجه وبوعي قضايا المجتمع المادية وغير المادية، تجمع العلمي بالادبي والاجتماعي بالاقتصادي، مبتعدة عن الشعارات الجاهزة والإعلانات الدعائية كي لا تغدو عبئا أو فائضاً وإنما قيمة تلتقي حولها الأفكار المتسمة بروح منفتحة لا تعرف النخبوية وتتبرأ من الصنمية وتنبذ صور البطرياركية بهيمنتها المقيتة وفردانيتها التي تنبذ الآخر حين تجده غير خانع لها.. فضلا عن رفض كل أشكال الوصاية والرقابة والحراسة الثقافية والتقييدات الفكرية وخطابات الكراهية التي تضطهد الفرد في ظل نظام عالمي منهار.
ولقد أكد جان فرانسوا ليوتار اهمية الاندماج في مواجهة الرأسمالية التي تظل تهدد الثقافة، وحذّر من الرأسمالية التي غزت كل مكان حتى صار كل ما يقبل التبادل يندمج في الرأسمال بسرعة وذلك بمجرد أن يقبل التحول من مال إلى آلة ومن بضاعة إلى بضاعة ومن قوة عمل إلى عمل من عمل إلى أجر ومن أجر إلى قوة عمل. وليوتار هو الذي أكد انتهاء عصر ايديولوجيا الثقافة. فالثقافة هي التي ينبغي أن تحدد الأنماط التي بها نعرف الكفاءات والمهارات المعرفية، ومن خلالها نرسم الكيفيات التي بها نستطيع مواجهة معوقات الانتاج والاستهلاك.
ومما يضمن للغد الثقافي رقياً تبني استراتيجيات تتصف بالديناميكية، لكن ينبغي قبل ذلك أن نكون واثقين أصلا من حاضر الثقافة التي نعيشها لنعمل على استمرار ديناميكية حركتها وشيوعها في المستقبل، متصفة بالشمول والاتساع والنخبوية والتحرك، متضادة مع كل ما هو متطرف وكذلك متسامية عن كل ما هو ضيق وانغلاقي. ومن تلك الاستراتيجيات ما وضعه المفكر عبد الله العروي من صور لثقافة الغد التي نسعى الى تعميق أواصر قواعدها في الحاضر كي تتعزز فاعليتها في المستقبل، ومن هذه الصور: الصورة العلمية، وتبنى نظريا على العلم كطريق يؤدي إلى ثورة ثقافية. والصورة الاعلامية التي فيها لا يتحقق التقدم من دون استثمار وسائل الاعلام والالكترونيات والتقدم التكنولوجي. والصورة الانتاجية حين يكون مفهوم الانتاج مسيطرا على فكرنا الثقافي وبذلك نغادر ذهنية الاستهلاك. والصورة العضوية، أي أن كل فرد هو جزء من الكل وهو حامل ثقافة عضوية مطابقة لبنية المجتمع. والصورة الانبعاثية التي فيها المثقفون منفصلون نسبيا عن مجتمعهم، والازمة أزمتهم في الدرجة الاولى.
وفي ضوء هذه الاستراتيجية التي رسمها المفكر العروي تتجسد لنا حقيقة أن ثقافة الغد لا تكون من دون رصد واقع الصراعات السياسية والنزاعات المذهبية والتنافس الاجتماعي، وسيكون للادباء والفنانين وغيرهم من العناصر الثقافية دورهم الفاعل في ذلك كله بوصفهم أكثر العناصر الثقافية قدرة على رسم مستقبل الثقافة بسبب ما لهم من دور جلي وواضح في الراهن الثقافي، مع ملاحظة أن الفن عامة والادب القصصي والروائي خاصة هما أهم الأدوات الناعمة في العولمة الثقافية اليوم وبإمكانهما أن يساهما في فهم صيرورة تلك الصراعات والنزاعات، وهو ما ذهب إليه جيسي ماتز مؤكدا أن الرواية الجيدة المصنوعة بشغف يمكن عدها فرعا من الدراسات الخاصة بالتنبوء بالمستقبل أو علم المستقبليات futurology وأن الروائي المتمكن بات ينظر إليه كفرد موسوعي المعرفة تمتلئ جعبته بالكثير من العناصر المعرفية التي تجعله ذا بصيرة رائية، ترى تضاريس المستقبل في الوقت الذي يحكي فيه عن الحاضر.
ومن التطلعات نحو ثقافة الغد أيضا تنمية النسوية واستيعابها مع نبذ التمييز والعنصرية، وقد أشار ستوارت ميل وهو واحد من المتأثرين برايموند ويليامز الى أن عمل مراكز الدراسات الثقافية المعاصرة يتعرض إلى مقاطعتين في الأقل: الأولى تخص النسوية والثانية تخص قضايا العنصر والتمييز العنصري. ونقف عند الإشكالية التي تثيرها النظريات والحركات النسوية، لنتساءل هل حان الوقت لوجود عمل نسوي يجدد واقع الدراسات الثقافية؟
مبدئيا لا يمكن لنا أن نتصور الثقافة من دون فهم نسوية العالم المعاصر كما لا يستقيم أي مشروع معرفي من دون أن تتساوى مادته البشرية رجالا ونساء أفرادا وجماعات، وبالايلاء المستقبلي التنموي لكلا الجنسين ستنتفى صورة التهميش وستغادرنا تلك الصورة القاتمة التي تمثلها الجماعات الهامشية التي هي جماعة أغلبية صامتة كما يقول ميشيل سورتو. ولا يمكن لنا أن نتصور الثقافة من دون فهم نسوية العالم المعاصر.
والتوجه التنموي للمرأة هو الذي يفتح آفاقا ثورية تحررية تعاد عبرها جدولة البرامج الثقافية بقصد منتجة قيم تتناسب ومتغيرات العصر ورهاناته الفكرية، فضلا عن بوادر نهوض تنوع ثقافي متعدد، وهو ما تنبأت به الامريكية بيل هوكس التي رأت أن ثورة القيم مرهونة بتغير متعدد للثقافات، رافضة التنوع بمفهومه التقليدي الذي يتشكل بصيغة مجموعة متناغمة من الاطياف الثقافية المعتدلة.
وتذهب دينيس رايلي في كتابها(هل أنا هذا الاسم؟) الى إدراك أن غموض فئة “المرأة” هو شرط ضروري لفلسفة سياسية نسائية فعالة. وتجد في تشغيل الكلمة كفاعلية كلام ضمانا لمستقبل الحركة النسائية الطموحة. ولا مناص من أن يكون مستقبل النسوية مرهونا بقدرة المرأة على استجلاء حاضرها أولا كي ترى نفسها في تاريخها بكل ما فيه من قمع وتهميش واضطهاد وتستنبئ ثانيا بمستقبلها الذي ينبغي أن يكون متجاوزا التابعية والتهميش ومتغلبا على القهر والاضطهاد.
ومن التطلعات أيضا أن تغدو الدراسات الثقافية ذات مناح فكرية جدية وجديدة، فتنتج لنا نفراً من الباحثين الذين يتمتعون بروح العمل الانفتاحي متسامين على ما هو آني ومرحلي متجهين صوب مسارات هي بمثابة نقلات ثقافية على مستوى الافراد او المؤسسات وبما يترك أثرا اندفاعيا وتفاؤليا على حركة البحث العلمي ومآلات انتاجه.
ولا عجب أن الغد الثقافي سيكون أفضل بالتأكيد إذا نحن أخذنا أحسن ما في واقعنا الثقافي الراهن، ومضينا به نحو انفتاح أصيل يواجه المستقبل بثقة وقوة.