مدينة الخالص العراقية دار الأدباء وحديقة البرتقال
تعد مدينة الخالص من مدن وسط العراق المهمة، إذ تمثل إداريا قضاءً تابعا لمحافظة ديالى، وتبعد عن العاصمة بغداد 55 كيلومترا. يبلغ عدد سكانها أكثر من 200 ألف نسمة وفق الإحصاءات الرسمية. وتعتبر مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، إذ تمر بها أهم الطرق التي تربط وسط وجنوب العراق بشماله. والخالص من أقدم الأقضية العراقية، حيث أصبحت قضاء منذ بداية العهد الملكي في عشرينات القرن العشرين. وتتبع قضاء الخالص عدة نواحي هي: ناحية جديدة الشط، وناحية منصورية الشط، وناحية المنصورية، وناحية هبهب، وناحية العظيم، وناحية الأسود.
وقد سكن مدينة الخالص في تاريخها الحديث خليط من القبائل العربية أبرزها قبيلتا العزة والعبيد بالإضافة إلى عدد من القبائل مثل المجمع، والمكادمة، والدليم، والبو عامر، والكرطان، وخفاجة، وبني تميم، والجبور، والدفافعة، وطي، والبيات، والعنبكية، وشمر.
عند مدخل مدينة الخالص اليوم، التي يُطلق عليها مدينة الأدباء، يقف تمثالا برونزيا شامخا لأشهر أدباء المدينة، اللغوي والمؤرخ الدكتور مصطفى جواد الذي يعد أحد جهابذة اللغة العربية وموسوعة معارف البلاغة والسير والأخبار والآثار، إذ كان مؤرخا معروفا وله عدد من المؤلفات في التاريخ واللغة، وما زال العراقيون يتذكرونه ويتذكرون برنامجه الإذاعي ثم التلفزيوني الشهير «قل ولا تقل». كما يمكننا أن نعدد من أبناء المدينة على سبيل المثال لا الحصر شخصيات مهمة مثل المؤرخ العراقي عباس العزاوي، والممثل العراقي رضا الشاطي، وإسماعيل العارف وزير المعارف في عهد عبد الكريم قاسم، وعلماء وفقهاء آل الخالصي، وهم من بيوتات علماء الشيعة البارزين، والشاعرمحمد جميل شلش، وحبيب الخيزران أحد قادة ثورة العشرين.
حديقة الفواكه
تقع مدينة الخالص وسط سهل شاسع خصب تحيط بها بساتين النخيل، ومزارع الرز، والحبوب والخضراوات، كما إن أراضيها صالحة للزراعة وفيها وفرة مائية كبيرة حيث يمر بها نهر الخالص، وهو أحد جداول مشروع ري ديالى المتفرع من نهر ديالى في منطقة المنصورية عند سد ديالى الثابت بالقرب من سلسة جبال حمرين.
لذلك يعتبر قضاء الخالص ذو أهمية زراعية، خاصة إذا ذكرنا ان 97 في المئة من أراضيه صالحة للزراعة، كما إن المدينة تساهم مساهمة فعالة في دعم الاقتصاد العراقي وتوفير المواد الغذائية إذ تزرع في بساتين ومزارع القرى المحيطة بها والتابعة لها الحبوب مثل الحنطة، والشعير، والرز، والذرة، والسمسم. كذلك تزرع في بساتين المدينة أنواع الفواكه وأبرزها البرتقال المميز، والتفاح، والمشمش والخوخ، والأجاص، بالإضافة إلى زراعة أنواع الخضروات كالطماطم والبامية والباذنجان والفاصوليا.
الأصل والتاريخ
سميت مدينة الخالص على اسم النهر الذي يخترقها، وهو نهر تاريخي متفرع من نهر ديالى، وقد ذكر في عدد من كتب التاريخ، فقد ذكره المؤرخ عماد عبد السلام رؤوف في كتابه «الأصول التاريخية لمحلات بغداد» ص84 إذ قال: «نهر الخالص من الأنهر التي تسقي الجانب الشرقي لريف بغداد، ويسير بين النهروان ودجلة، يلتقي بدجلة شمال مدينة بغداد أسفل الراشدية. كان نهر الخالص يتفرع من الجانب الأيمن لنهر النهروان في نقطة تقع بجوار قرية باجسري. فيسير بالاتجاه الجنوبي بين النهروان ودجلة، ثم يصب في دجلة شمالي مدينة بغداد الشرقية فوق قرية البردان بقليل». كما ذكر بشير يوسف فرنسيس في كتابه «موسوعة المدن والمواقع في العراق» ج1، ص395: «وصف ابن سرابيون نهر الخالص قائلاً: انه نهر كبير تجري فيه السفن فيمر بين ضياع وقرى، وبعد أن تتفرع منه أنهار كثيرة يصب في نهر دجلة أسفل الراشدية بفرسخين (حوالي عشرة كيلو مترات) شرقي دجلة».
كما يذكر إبراهيم بن صبغة الله الحيدري، في كتابه «عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد» ص155: «وقال النويري في التاريخ: يحمل من نهر الخالص نهر يقال له نهر الفضل، إلى أن ينتهي إلى باب الشماسية، فيأخذ منه نهر يقال له نهر المهدي، ويدخل في المدينة في الشارع المعروف بشارع المهدي، ثم يجيء إلى قنطرة البردان، ويدخل دار الروميين، ويخرج إلى سويقة نصر بن مالك، ثم يدخل الرصافة، ثم يمر في المسجد الجامع إلى بستان حفص، ويصب في بركة في جوف قصر الرصافة، ويحمل من هذا النهر نهراً أوله في سويقة نصر، ثم وسط شارع باب خراسان على أن يصب في نهر الفضل بباب خراسان».
ويذكر مؤرخ ديالى خضير عباس العزاوي في كتابه «هذا هو لواء ديالى» ص 114: «الخالص هو القضاء المعروف قبلا بـ (دلتاوه). وهي من مناطق ديالى المهمة في النواحي الاقتصادية والسياسية والأثرية لما في تربتها من خصوبة، ومياهها من عذوبة، وبساتينها من جمال، وتلالها من آثار، وزاد من أهميتها أن نهري دجلة وديالى يحصران أراضيها، لذا راح البعض يفسر كلمة دلتاوه بمعنى الدلتا، وهي البقعة المحصورة بين نهرين، وهناك رأي آخر يقول إن دلتاوه محرف من دولة آباد، والعوام ينطقونها تيلتاوه، ومن المؤسف حقا إن التاريخ قد أهمل هذه البلدة. واسم البلدة اليوم الخالص مأخوذ من اسم النهر المار بها ومعناه الصافي الخالي من الشوائب».
ويقول الآثاريان العراقيان طه باقر وفؤاد سفر في كتابهما «المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة»: «الخالص بلدة تقع على نهر الخالص الذي يأخذ مياهه من ديالى عند سدود الصدور في منصورية الجبل، وتسمى أيضا ديلتاوه، وتشتهر بساتينها بالنخيل والحمضيات والكروم والأشجار المثمرة. ولا يعلم بالضبط أصل اسم دلتاوه، ولعله مصحف عن دولة آباد التي كانت من قرى النهروان في العصر العباسي ولم يرد ذكر الخالص في كتب التاريخ والمعاجم البلدانية ولعلها هي القرية التي وجد اسمها بصيغة دلتاباد أي دولة آباد محفورا في مصلى المدرسة المرجانية (جامع مرجان) في وقفية أمين الدين مرجان، والوقفية مؤرخة بعام 1358 م أي من عهد السلطان أويس بن الشيخ حسن الكبير مؤسس الدولة المغولية الجلائرية في العراق». ويعرج طه باقر وفؤاد سفر الى ذكر تفاصيل تاريخ اسم المدينة فيقولان: «إن اسم الخالص كان يطلق في أيام ياقوت الحموي (القرن السابع الهجري) على كورة في شمال طريق خراسان وتمتد إلى أسوار بغداد الشرقية، كما ورد اسم خلاسار في منطقة ديالى في كتاب المنازل الفريثية لاسيدور الكرخي، ولعل اسم الخالص معرب عن خلاسار».
أما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فيذكر مدينة الخالص في كتابه «العراق قديما وحديثا» ص 212 فيقول: «دلتاوة، ويكتبها ويلفظها بعضهم ديلتاوة – أصلها دولة آباد ثم جرى عليها التصحيف اللفظي فأصبحت دلتاوة كما تصحفت شقلا آباد إلى شقلاوة. أو ما يرفق بها كلمة آباد وتعني مدينة بالفارسية، مثل خرم آباد وتعني مدينة التمر، وهي مدينة على تخوم الخالص أصبحت بعد التصحيف خرنابات، أو خسرو آباد أي مدينة خسرو قرب الموصل على موقع آشور التاريخي التي أمست خرسباد». ويضيف الحسني؛ «والخالص من قرى النهروان في قديم الزمان، ولا سيما في عهد بنى العباس، ولم تذكرها معاجم البلدان المعروفة أما لصغرها، أو لأنها كانت مجهولة عند المؤلفين. كما أن المؤرخين لم يذكروها قط لأنها لم تحدث فيها حادثة عظيمة تستوجب ذكرها في التاريخ».
ويذكر خضير عباس العزاوي في كتابه المشار له سابقا، ص 115: «كان مركز الخالص من التشكيلات الإدارية العثمانية المهمة من الأعمال الشرقية، وقد فكر عدد من الولاة في نقل مركز الولاية من بغداد إلى الخالص، فسليمان باشا الكبير ترك بغداد مع حاشيته عام 1801على أثر تفشي مرض الطاعون وسكن ميدان سلق إحدى محلات الخالص، لكن الغزو الوهابي حتم عليه العودة إلى بغداد، وبرجوعه درب الانكشارية ووجههم عام 1802 إلى الخالص بمعية ضابط لتبقى عاصمة احتياطية عند اللزوم». ويضيف العزاوي «وفي هذه الأثناء ساءت الأحوال الإدارية، فكان كاتب مقاطعة الخالص ملا علي الخصي قد فرض الرشاوى لدرجة أغضبت السلطان عليه. والذي زاد في أهمية مقاطعة الخالص انها تقع على الطريق الخارج من بغداد إلى الموصل والسائر بمحاذاة دجلة تقريبا، إذا سلكه الرائح، فهذا الطريق قد سلكه هولاكو عندما بدأ بزحفه المشؤوم على بغداد، وبعده في عام 1535م سلكه السلطان سليمان القانوني والسلطان مراد الرابع عام 1638 في غزوهما لبغداد، ومما يجدر ذكره أن هذا الطريق لا يزال مستعملا حتى الآن وقد بلطت الدولة الجزء المار من الخالص حتى كركوك».
سد العظيم الأثري
يذكر الآثاريان طه باقر وفؤاد سفر في كتابهما أنف الذكر: «وتشاهد آثار بعض الأقنية القديمة في الغرفة التي كانت تأخذ مياهها من سد العظيم الذي عُرف باسم بند العظيم الواقع إلى يسار قرية إنجانة بنحو كيلومترين داخل جبال حمرين. فكان يخرج من العظيم يوم كان السد عامرا جملة أنهار تسقي الغرفة» ويضيفان؛ «وقد ذكر العظيم باسم ردانو في المصادر البابلية والآشورية، أما في المصادر اليونانية والرومانية فقد ذكر باسم فيسكوس».
ويعد سد العظيم الأثري أحد أهم المواقع الأثرية الشاخصة في قضاء الخالص وشاهدا على تطور هندسة الإرواء في العراق القديم، إذ تم إنشاء السد من الحجر الرملي الذي يوجد في جبل حمرين في موقع السد، على نهر العظيم عند مضيق جبل حمرين لإرواء الأراضي التي على جانبي النهر، وبارتفاع 40 قدماً عن مستوى المياه، وطوله 450 قدماً بين الضفتين، وعرضه من قاعدته 36 قدماً ثم يبدأ يتقلص إلى 20 قدماً عند الفتحة. وقد جرفت المياه منه حوالي 200 قدم في وسطه، أي في وسط مجرى النهر. ويستدل من بقايا المواد التي استعملت للربط بين الأحجار إنها تتكون من خلطة من الجص والنورة وهي قوية جداً. ويعد هذا السد بالاستدلال على بقاياه من أهم آثار مشاريع الري القديمة في العراق.