مقدمة الترجمة الروسية لرسائل ماركس إلى كوغلمان
مقدمة الترجمة الروسية لرسائل ماركس إلى كوغلمان[1] فلاديمير ايليتش أوليانوف.لينين
حين أصدرنا بشكل كراس المجموعة الكاملة من رسائل ماركس إلى كوغلمان، التي نشرتها المجلة الأسبوعية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية »نويه زايت«[2]قصدنا أن نطلع الجمهور الروسي أحسن من ذي قبل على ماركس و الماركسية. و كما كان من المتوقع، أخذت الشؤون الشخصية مكانا واسعا جدا في رسائل ماركس.و إنها لمرجع على أكبر درجة من القيمة لأجل وضع ترجمة عن حياة ماركس. و لكن المقاطع التي هي بمثابة مستندات نظرية و سياسية هي أهم بما لا حد له بالنسبة للسواد الأعظم من الجمهور بوجه عام،و بالنسبة للطبقة العاملة الروسية بوجه خاص.فعندنا بالضبط، في العهد الثوري الذي نجتاز، من المفيد بخاصة التعمق بهذه المستندات بأشد ما يكون من الانتباه.فهي تبين لنا كيف يقف ماركس مباشرة من جميع قضايا الحركة العمالية و السياسية العالمية.إن هيئة تحرير «Neue zeit» على حق تماما حين تقول «إن معرفة الرجال الذي تكون تفكيرهم و إرادتهم إبان الانقلابات الكبيرة، ترفعنا». و من الضروري بخاصة للاشتراكي الروسي في 1907، أن يكتسب معرفة كهذه، لأن هذه المعرفة تقدم كثرة من التوجيهات الثمينة جدا حول مهمات الاشتراكيين المباشرة في جميع الثورات التي تجتازها بلاده، على اختلاف ألوانها؛ فإن روسيا تمر الآن بالضبط في »انقلاب كبير«. و لذا ينبغي في أحيان كثيرة،كثيرة جدا،أن تتخذ سياسة ماركس في سنوات العقد السابع من القرن التاسع عشر،العاصفة نسبيا،نموذجا مباشرا لسياسة الاشتراكي-الديمقراطي في الثورة الروسية المعاصرة.
و لذا أتيح لنفسي أن لا أشير إلا بصورة موجزة إلى أهم المقاطع، من الناحية النظرية، في رسائل ماركس،-و أن أتناول بمزيد من التفصيل سياسته الثورية بوصفه ممثل البروليتاريا.
إن رسالة 11 تموز (يوليوز) 1868 (صفحة 42 و ما يليها) ترتدي أهمية بالغة لفهم الماركسية على نحو أكمل و أعمق.فإن ماركس يعرض فيها بوضوح بالغ،و بشكل ملاحظات جدلية موجهة ضد الاقتصاديين المبتذلين،مفهومه هو عما يسمى بنظرية قيمة «العمل».إن الاعتراضات على نظرية ماركس حول القيمة هي بالضبط التي تخامر بصورة جد طبيعية أفكار قراء «رأس المال» الأقل اطلاعا و إدراكا، و التي، لهذا السبب، يرددها بأشد ما يكون من الحمية، ممثلوا «العلم الجامعي» البورجوازي العاديون؛ إن هذه الاعتراضات هي التي يحللها ماركس هنا،بإيجاز،و بساطة، و بوضوح رائع.
فإن ماركس يبين هنا أي سبيل سلك و أي سبيل يترتب سلوكه للتوصل إلى تفسير قانون القيمة. و هو يعلمنا طريقته و ذلك باستخدام أبسط الاعتراضات و يوضح الصلة القائمة بين مسألة نظرية و مجردة خالصة(في الظاهر) كنظرية القيمة و بين «مصالح الطبقات السائدة» التي تطالب ب «تخليد البلبلة».يبقى أن نتمنى لجميع الذين بدأوا يدرسون ماركس و يقرأون «رأس المال» أن يقرؤوا و يعيدوا قراءة الرسالة التي نشير إليها،مع دراستهم الفصول الأولى من «رأس المال»، و هي أشق الفصول.
و ثمة مقاطع أخرى من الرسائل، مفيدة بخاصة من الناحية النظرية، و هي المقاطع التي يبدي فيها ماركس رأيه حول شتى الكتاب.فعند قراءة هذه الأسطر الزاخرة بالحركة و النشاط و الحماسة، و التي يتجلى فيها اهتمام ماركس الشديد بجميع التيارات الفكرية و بتحليلها، نخال أننا نسمع صوت المفكر العبقري.و علاوة على بعض التقديرات التي أبداها ماركس عرضا حول ديتزغن، تستحق أحكامه على البرود ونيين [3] (صفحة 17) اهتماما خاصا من القراء. فان ماركس يرسم هنا، ببضعة خطوط ذات وضوح أخاذ ،الشبيبة المثقفة البورجوازية «اللامعة» التي تندفع «نحو البروليتاريا»، في مراحل النهوض الاجتماعي، دون أن تستطيع استيعاب مفاهيم الطبقة العاملة و العمل جديا، و بمثابرة، «في صفوف» المنظمات البروليتارية [4].
و هاكم في الصفحة 35 [5]، حكما على دوهرينغ،يستبق ، إذا جاز القول، مضمون الكتاب الشهير الذي كتبه أنجلس بعد تسع سنوات (و بالتعاون مع ماركس) “anti-Dühring”/ “ضد دوهرينغ”. و ثمة ترجمة روسية لهذا الكتاب قام بها تسيدرباوم، غير أنها مع الأسف، تنطوي على نواقص،بل هي سيئة جدا و حافلة بالأخطاء. و نجد هنا أيضا تقديرا حول تيونن، و هو تقدير يمس كذلك نظرية الريع التي وضعها ريكاردو [6].فحينذاك،في 1868، نبذ ماركس بحزم «أخطاء ريكاردو» ثم دحضها نهائيا في المجلد الثالث من «رأس المال» الصادر عام 1894؛ و مع ذلك،يكرر المحرفون هذه الأخطاء حتى يومنا هذه،ابتداء من صاحبنا البورجوازي المتطرف بل «الرجعي المتطرف»،السيد بولغاكوف، حتى «القويم المبدأ تقريبا»/ماسلوف.
و الحكم على بوخنر طريف أيضا:فإن ماركس يصف في هذا الحكم المادية المبتذلة و “الثرثرة السطحية” المستمدة من لانغه (المصدر العادي للفلسفة «الجامعية» البورجوازية!) (صفحة 48).
و ننتقل إلى سياسة ماركس الثورية.فعندنا في روسيا نرى أن المفهوم التافه الضيق الأفق حول الماركسية واسع الانتشار إلى حد مدهش بين الاشتراكيين-الديمقراطيين،و هو مفهوم يقول أن المرحلة الثورية،بأشكالها النضالية الخاصة و بالمهمات الخاصة الملقاة على عاتق البروليتاريا، تكاد تكون شذوذا،بينما “الدستور” و “أقصى المعارضة”-هما القاعدة. و ليس ثمة حاليا في أي بلد “ماركسيون” (يحطون من قدر الماركسية إلى درجة الابتذال و السطحية) ينظرون إلى الثورة نظرة تشكك و ضيق و تفاهة كما ينظر إليها “ماركسيو” روسيا.فلأن مضمون الثورة بورجوازي، يستنتجون بكل تفاهة في بلادنا أن البورجوازية هي محرك الثورة، و أن للبروليتاريا مهمات ثانوية،تابعة،في هذه الثورة، و أنه يستحيل عليها قيادة الثورة!
ما أشد ما يفضح ماركس،في رسائله إلى كوغلمان،تفاهة هذه المفهوم عن الماركسية! إليكم رسالة مؤرخة في 6 نيسان (أبريل) 1866. في ذلك الحين، كان ماركس قد أنهى مؤلفه الرئيسي. و قبل أربع عشر سنة [7]، كان أبدى حكما قاطعا حول الثورة الألمانية التي قامت عام 1848. ثم استنكر بنفسه، عام 1850 [8]، أوهامه الاشتراكية التي أبداها عام 1848 حول حدوث ثورة اشتراكية وشيكة. و في عام 1866، حين أخذ فقط يلاحظ تنامي أزمات سياسية جديدة:كتب يقول:
«هل يدرك أصحابنا التافهون الضيقو الأفق (والمقصود بهم البورجوازيون الليبراليون الألمان) أخيرا أن الأمر سيبلغ بنا،في آخر المطاف،إلى حرب جديدة كحرب الثلاثين سنة [9]، إذا لم تنشب ثورة تطيح بآل هابسبورغ و آل هوهنزوللرن…» (صفحة13-14) [10].
فليس ثمة أي وهم يقول أن الثورة المقبلة(التي جاءت من فوق لا من تحت كما كان يتوقع ماركس) ستقضي على البورجوازية و الرأسمالية.فإن ماركس يلاحظ بأشد ما يكون من الوضوح و الجلاء أن هذه الثورة ستقضي فقط على الملكية البروسية و الملكية النمساوية.و أي إيمان بهذه الثورة البورجوازية! أية حماسة ثورية متأججة عند هذا المكافح البروليتاري الذي يدرك دور الثورة البورجوازية الهائل في سبيل سير الاشتراكية إلى أمام!
بعد ثلاث سنوات،لاحظ ماركس حركة اجتماعية «جد طريفة»، عشية انهيار الإمبراطورية الفرنسية الثانية،فتحدث بحماسة حقيقية عن أن «الباريسيين أخذوا حقا و صدقا يدرسون ماضيهم الثوري القريب العهد استعدادا للنضال الثوري الجديد الذي يقترب». و بعد أن وصف ماركس النضال الطبقي كما يبينه هذا التحليل للماضي، استنتج(صفحة 56) قائلا :«هكذا تغلي قدر التاريخ الساحر! فمتى نبلغ عندنا (في ألمانيا!» [11]
هذا ما ينبغي أن يتعلمه من ماركس الماركسيون المثقفون الروس،الذين أوهنهم الارتياب،و صيرهم الإدعاء بالعلم و المعرفة بلداء بلهاء،و الذين يميلون إلى خطب الندامة،و يتعبون سريعا من الثورة، و يحلمون بجنازة الثورة،كما يحلمون بعيد من الأعياد،و الاستعاضة عنها بنثر دستوري. ينبغي عليهم أن يتعلموا من نظري البروليتاريا و زعيمهم،الإيمان بالثورة، و الطريقة التي ينبغي بها دعوة الطبقة العاملة إلى الدفاع حتى النهاية عن مهماتها الثورية المباشرة،و الصلابة الروحية التي لا ترضى بنحيب الوجل عندما تمنى لثورة بهزائم مؤقتة.
إن أدعياء الماركسية يعتقدون أن كل ذلك ليس سوى ثرثرة أخلاقية،و نزعة رومانطيقية، و ابتعاد تام عن الواقعية! كلا، أيها السادة، إنما ذلك هو اتحاد النظرية الثورية و السياسة الثورية، هو اتحاد بدونه لا تبقى الماركسية سوى ضرب من البرينتانية و الستر وفية و الزومبارتية [12].
إن مذهب ماركس قد دمج في كل واحد لا يتجزأ نظرية و تطبيق النضال الطبقي.فليس بماركسي ذلك الذي ،رغبة منه في تبرير ما هو قائم، يشوه نظرية تلاحظ الحالة الموضوعية بكل وضوح،و الذي يبلغ به الأمر حد الرغبة في التكيف بأسرع وقت ممكن تبعا لكل هبوط مؤقت في الثورة،و في التخلي دون أي إبطاء عن “الأوهام الثورية” لقاء أشياء طفيفة،و لكنها “واقعية”.
في أهدأ المراحل،و كما يبدو،في أكثرها “عذوبة و سذاجة”، على حد قول ماركس،في مراحل “الركود الكئيب” (على حد تعبير هيئة تحرير “Neue Zeit”) كان ماركس يعرف كيف يشعر باقتراب الثورة و كيف يرفع البروليتاريا حتى تدرك مهماتها الطليعية،الثورية.
إن مثقفينا الروس الذين يسعون،مثل التافهين الضيقي الأفق ،إلى تبسيط ماركس،يعلمون البروليتاريا،في أكثر المراحل ثورية،سياسة الجمود،يعلمونها أن تتبع “التيار” باتضاع،أن تساند بوجل أكثر العناصر ترجرجا في الحزب الليبرالي الذي هو على الموضة!
إن الحكم الذي أبداه ماركس بصدد الكومونة هو تتويج كل مراسلته مع كوغلمان. و هذا الحكم ثمين بخاصة إذا قورن بأساليب الجناح اليميني من الاشتراكيين-الديمقراطيين الروس.فإن بليخانوف الذي هتف بخشية بعد كانون الأول (ديسمبر) 1905: «لم يكن ينبغي حمل السلاح»، قد تواضع إلى حد أنه قارن نفسه بماركس؛ فهو يرى أن ماركس أيضا قد أعاق الثورة في 1870.
أجل، إن ماركس، أيضا، قد أعاق الثورة. و لكن أنظروا أية هاوية فتحتها لنا هذه المقارنة التي قام بها بليخانوف نفسه، بين بليخانوف و ماركس.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 1905، قبل شهر من بلوغ الموجة الثورية الروسية الأولى ذروتها، لم يحذر بليخانوف البروليتاريا بحزم.بل إنه، بالعكس، حدثها بوضوح عن ضرورة تعلم استخدام السلاح و التسلح.و لكن،بعد شهر واحد،حين بدأت المعركة،لم يحاول بليخانوف قط تحليل أهميتها و دورها في مجرى الأحداث العام،و صلتها بأشكال النضال التي سبقتها، إنما أسرع يظهر بمظهر المثقف النادم قائلا: «لم يكن ينبغي حمل السلاح».
أما ماركس ،فإنه حذر العمال الفرنسيين صراحة في أيلول (سبتمبر) 1870،أي قبل الكومونة [13] بستة أشهر:فقد صرح في رسالته الشهيرة التي وجهها باسم الأممية [14] قائلا: إن الانتفاضة ستكون ضربا من الجنون.و قد فضح ماركس مسبقا الأوهام القومية الضيقة حول إمكانية قيام حركة تشبه حركة 1792. فهو لم يقل: «لم يكن ينبغي حمل السلاح»، بعد حمله، بل قبل ذلك بأشهر طويلة.
و أيا كان موقفه عندما بدا هذا المسعى اليائس (كما قال في رسالته في أيلول-سبتمبر 1870)، يتحقق في آذار (مارس) 1871؟فهل استغل ماركس المناسبة (كما استغل بليخانوف أحداث كانون الأول-ديسمبر) لمجرد “إذلال” خصومه، البر ودونيين و البلانكيين الذين قادوا الكومونة؟ و هل أخذ يتذمر كناظرة في مدرسة داخلية:لقد قلت لكم ذلك، لقد حذرتكم، إليكم أين تقود رومانطيقيتكم،و أحلامكم الثورية؟و هل وجه بعد قيام الكومونة إلى الكمونيين، كما وجه بليخانوف إلى مكافحي كانون الأول(ديسمبر)، هذه التوصية التي تشبه توصية تافه ضيق الأفق راض عن نفسه: «لم يكن ينبغي حمل السلاح»؟
كلا.ففي 12 نيسان (أبريل) 1871،كتب ماركس إلى كوغلمان رسالة زاخرة بالحماسة، رسالة نكون سعداء لو علقناها في بيت كل اشتراكي-ديمقراطي روسي،في بيت كل عامل روسي يعرف القراءة.
إن ماركس الذي قال في أيلول (سبتمبر) 1870 أن الانتفاضة ستكون ضربا من الجنون،إن ماركس الذي رأى في نيسان (أبريل) 1871 حركة شعبية جماهيرية، إنما تتبع هذه الحركة بأقصى الاهتمام الذي يبديه رجل يشترك في أحداث كبيرة تسجل خطوة إلى الأمام تخطوها الحركة الثورية التاريخية العالمية.
و قد قال ماركس أن هذه المحاولة تهدف إلى تحطيم الآلة البيروقراطية و العسكرية،لا إلى الاكتفاء بنقل هذه الآلة إلى أيد أخرى،و إذا به ينشد الظفر و يهلل حقا للعمال الباريسيين “الأبطال” السائرين بقيادة البر ودونيين و البلانكيين. فقد كتب يقول: «أية مرونة،أية مبادرة تاريخية، أية مقدرة على التضحية، عند هؤلاء الباريسيين!» (صفحة 88)… «إن التاريخ لم يعرف حتى الآن مثالا على بطولة كهذه».
و ماركس يقدر أسمى تقدير مبادرة الجماهير التاريخية.
آه! لو أن أصحابنا الاشتراكيين-الديمقراطيين الروس تعلموا من ماركس كيف يقدرون مبادرة العمال و الفلاحين الروس التاريخية في تشرين الأول (أكتوبر) و كانون الأول (ديسمبر) 1905!
فهنا، نرى أعمق المفكرين، و قد تنبأ بالفشل قبل ستة أشهر، ينحني أمام مبادرة الجماهير التاريخية؛ و هناك نرى هذا التصريح الذي لا حياة فيه،لا روح فيه، هذا التصريح الجدير بدعي متحذلق «لم يكن ينبغي حمل السلاح»! أليس البون بين القولين كالبون بين السماء و الأرض؟
و بوصفه مشتركا في نضال الجماهير، و قد تتبع مراحله بكل الحمية و الحماسة اللتين اتصف بهما، أخذ ماركس ينتقد، من منفاه في لندن، الأعمال المباشرة التي يقوم لها الباريسيون “الجريئون حتى الجنون”، “المستعدون لمهاجمة السماء”.
آه ! لكم كان سخر حينذاك من ماركس أصحابنا “الواقعيون” الحاليون، أصحابنا حكماء الماركسية، الذين يوجهون اللوم و التعنيف للرومانطيقية الثورية في روسيا 1906-1907! و لكم كان بعضهم سخر من المادي ،من الاقتصادي، من عدو الطوباويات الذي ينحني إعجابا أمام “محاولة” مهاجمة السماء! و لكم كان أراق مختلف “المعلبين” [15] من دموع الشفقة أو أغدقوا من ضحكات المجاملة أمام ميول العصيان هذه، أمام هذه الطوباوية،…الخ، أمام هذا التقدير لحركة تهاجم السماء!
و الحال أن ماركس لم يتشبع بحكمة “سمكة البوري” [16]، بحكمة أولئك الذين يخافون أن يبحثوا تكنيك أشكال النضال الثوري العليا. بل أنه يبحث بالضبط في المسائل التكنيكية المتعلقة بالانتفاضة.دفاع أم هجوم؟ هكذا قال، كان العمليات الحربية كانت تجري في جوار لندن. و استنتج قائلا: الهجوم، ينبغي الهجوم إطلاقا! «كان ينبغي الزحف فورا على فرساي…».
لقد كتب ذلك في نيسان (أبريل) 1871، قبل أيار (مايو) الكبير الدامي ببضعة أسابيع…
«كان ينبغي الزحف فورا على فرساي»، هذا ما كان يترتب على الثوار أن يفعلوه، و هم الذين بدأوا بهذا المسعى “الجنوني” (أيلول-سبتمبر 1870): مهاجمة السماء.
«لم يكن ينبغي حمل السلاح» في كانون الأول (ديسمبر)1905 للدفاع بقوة عن الحريات المكتسبة، بوجه المحاولات الأولى الرامية إلى اغتصاب هذه الحريات…
أجل، لم يخطئ بليخانوف عندما قارن نفسه بماركس!
و يتابع ماركس انتقاده التكنيكي قائلا:«الخطأ الثاني أن اللجنة المركزية (أي القيادة العسكرية، و لا حظوا جيدا أن المقصود بها اللجنة المركزية للحرس الوطني) قد تنازلت عن وظائفها قبل الأوان بكثير…».
لقد عرف ماركس كيف يحذر القادة من انتفاضة مبكرة. و لكنه وقف من البروليتاريا التي تهاجم السماء موقف مستشار عملي، موقف رجل يشترك في نضال الجماهير التي ترفع الحركة برمتها إلى درجة عليا، رغم نظريات بلانكي و برودون الخاطئة و رغم أخطائهما.
و قد كتب ماركس يقول: « مهما يكن من أمر، فإن الانتفاضة الباريسية،حتى و لو قضي عليها ذئاب المجتمع القديم و خنازيره و كلابه السافلة، هي امجد مأثرة قام بها حزبنا منذ انتفاضة حزيران(يونيو)» [17].
و لم يخف ماركس من البروليتاريا خطأ واحدا من أخطاء الكومونة،بل كرس لهذه المأثرة مؤلفا لا يزال حتى الآن خير مرشد في النضال من أجل “السماء” و أرعب بعبع “”للخنازير” الليبراليين و الراديكاليين [18].
و قد كرس بليخانوف لكانون الأول (ديسمبر) “مؤلفا” غدا بمثابة إنجيل للكاديت [19].
أجل، لم يخطئ بليخانوف عندما قارن نفسه بماركس.
و من المحتمل أن يكون كوغلمان قد أعرب، في جوابه إلى ماركس، عن بعض الشكوك،مشيرا إلى أن القضية يائسة و إلى ضرورة التمسك بالواقعية، لا بالرومانطيقية،أو أنه، على الأقل، شبه الكومونة التي كانت انتفاضة،بالمظاهرة السلمية التي جرت في باريس يوم 19 حزيران (يونيو) 1849.
و وفرا، (17 نيسان-أبريل 1871) وجه ماركس تأنيبا قاسيا كوغلمان قال فيه:
“قد يكون من السهل جدا صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتما إلى النجاح”.
في أيلول (سبتمبر) 1870، قال ماركس عن الانتفاضة أنها ستكون ضربا من الجنون. و لكن، حين ثارت الجماهير، شاء ماركس أن يسير معها، و أن يتعلم منها، في غمرة النضال، لا أن يلقي مواعظ بيروقراطية.
و قد أدرك أن كل محاولة يراد منها مسبقا تخمين نجاحات النضال بدقة تامة ستكون شربا من التدجيل أو ضربا من الادعاء الفارغ الذي لا شفاء له. و هو يقدر أسمى التقدير كون الطبقة العاملة تصنع تارخ العالم ببطولة،و تفان، و بروح المبادرة.
و قد رأى ماركس إلى هذا التاريخ من وجهة نظر أولئك الذين يصنعونه، دون أن تتاح له إمكانية تخمين احتمالات النجاح مسبقا دون أي خطأ، لا من وجهة نظر مثقف تافه ضيق الأفق يلقي المواعظ الأخلاقية:« كان من السهل التنبؤ…لم يكن ينبغي المجازفة…».
كذلك عرف ماركس أن يرى أنه لا بد من نضال ضار تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ، حتى في سبيل قضية يائسة.و ذلك لأجل تثقيف هذه الجماهير نفسها فيما بعد، لأجل تحضيرها للنضال التالي.
إن أصحابنا الماركسيين الحاليين المزعومين، الذين يحبون الاستشهاد بماركس خبط عشواء، مستمدين منه فقط أحكاما على الماضي،لا معرفة صنع المستقبل،لا يدركون أبدا وضع المسألة على هذا النحو،بل إن ذلك غريب تماما عنهم مبدئيا. حتى أن بليخانوف لم يفكر بهذا حين أخذ على عاتقه، بعد كانون الأول (ديسمبر) 1905، واجب “الإعاقة…”.
و لكن ماركس وضع بالضبط هذه المسألة، دون أن ينسى أبدا أنه أقر هو نفسه في أيلول (سبتمبر) 1870 أن الانتفاضة ستكون ضربا من الجنون.
و قد كتب يقول:
“إن الأوباش البورجوازيين الفرساليين وضعوا الباريسيين أمام أمرين لا ثالث لهما:إما قبول التحدي للمعركة و إما الاستسلام دون معركة.و لو تمت الحالة الأخيرة، لكان تفسخ معنويات الطبقة العالمة كارثة أعظم بكثير من خسارة أي عدد كان من الزعماء”[20].
و إننا لننهي هنا هذه اللمحة الموجزة عما أعطانا إياه ماركس في رسائله إلى كوغلمان من الدروس في السياسة،في سياسة جديرة بالبروليتاريا.
إن الطبقة العاملة الروسية قد أثبتت مرة و ستثبت أيضا أكثر من مرة أنها قادرة على “مهاجمة السماء”.
5 شباط (فبراير) 1907
صدر في عام 1907 في كراس طبع في بطرسبورغ
المجلد 14، ص 371-379
الشروحات –عن دار التقدم-:
1- كوغلمان لودفيغ (1830-1902)- اشتراكي ديمقراطي ألماني.صديق ماركس.اشترك في ثورة 1848-1849 في ألمانيا.عضو الأممية الأولى. من عام 1862 إلى عام 1874، تراسل مع ماركس و أطلعه على الوضع في ألمانيا.نشرت رسائل ماركس إلى كوغلمان للمرة الأولى في عام 1902 في مجلة “Die Neue Zeit” في عام 1907،صدرت مترجمة إلى اللغة الروسية مع مقدمة لينين.
2-“Die Neue Zeit”(“دي نويه زايت”-“الأزمنة الحديثة”-مجلة نظرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. صدرت في شتوتغارت من عام 1883 إلى عام 1922. عاون فيها قادة بارزون في الحركة العمالية الألمانية و العالمية في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين:أوغست بيبل، ولهم ليبكنخت،روزا لوكسمبورغ،فريدريك مهرينغ،كلارا تسيتكين،بول لافارغ،غيورغي بليخانوف،و غيرهم. ابتداء من النصف الثاني من العقد العاشر من القرن التاسع عشر،-بعد وفاة انجلس،- أخذت المجلة تنشر بانتظام مقالات المحرفين،بما فيها سلسلة مقالات برنشتين «قضايا الاشتراكية»،التي دشنت حملة المحرفين على الماركسية.-ص 72
3- البر ودونية : تيار في الاشتراكية البورجوازية الصغيرة معاد للماركسية، أسمي باسم أيديولوجيه الفوضوي الفرنسي برودون. فقد انتقد برودون الرأسمالية بشدة، و لكنه لم ير المخرج في القضاء على أسلوب الإنتاج الرأسمالي الذي يولد حتما الفقر واللامساواة و استثمار الشغيلة،بل رآه في «تصحيح» الرأسمالية، في إزالة نواقصها و تجاوزاتها عن طريق إجراء جملة من الإصلاحات. حلم برودون بتخليد الملكية الخاصة الصغيرة، و اقترح تنظيم مصرف «شعبي» و مصرف «للتبادل» يستطيع بواسطتها العمال، حسب زعمه، أن يقتنوا وسائل الإنتاج الخاصة و يصبحوا حرفيين و يؤمنوا التصريف«العادل» لمنتوجاتهم. لم يفهم برودون دور البروليتاريا التاريخي، ووقف موقفا سلبيا من النضال الطبقي و الثورة البروليتارية وديكتاتورية البروليتاريا.و أنكر ضرورة الدولة من مواقع فوضوية. ناضل ماركس و انجلس بدأب و مثابرة ضد محاولات برودون لفرض آرائه على الأممية الأولى.و قد انتهى النضال الحازم الذي خاضه ماركس و انجلس و أنصارهما ضد البرودونية في الأممية الأولى بانتصار الماركسية التام على البرودونية.
4-راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1866- ص 74.
5-راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 6 آذار (مارس) 1868-ص 74.
6- راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 5 كانون الأول (ديسمبر) 1868- ص 74.
7- المقصود هنا مؤلف انجلس«الثورة و الثورة المضادة في ألمانيا» ص 75.
8- راجعوا ماركس و انجلس.« اللمحة العالمية الثالثة.من أيار(مايو) إلى تشرين الأول (أكتوبر)»-ص 75.
9- حرب الثلاثين سنة 1618-1648- حرب أوربية عامة نشبت نتيجة لتأزم التناقضات بين مختلف تكتلات الدول الأوربية و ارتدت شكل نضال بين البروتستانت و الكاثوليك. كانت ألمانيا المسرح الرئيسي لهذا النضال،و موضوع النهب الحربي و المطامع الاغتصابية عند المشتركين في الحرب. انتهت الحرب بعقد صلح و ستفاليا الذي ثبت تجزؤ ألمانيا السياسي.-ص 75.
10- راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 6 نيسان (أبريل) 1866. –ص 75.
11- راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 3 آذار (مارس) 1869.- ص 76.
12-البرينتانية- تيار بورجوازي إصلاحي؛اسمي باسم الاقتصادي البورجوازي الألماني لوريو برينتانو.كان برينتانو خصما لنظرية ماركس الثورية؛ و قد زعم انه يمكن حل تناقضات المجتمع الرأسمالي عن طريق الإصلاحات،و دعا إلى «السلام الاجتماعي»،و إلى «التصالح »بين البورجوازية و البروليتاريا.
الستر وفية أو «الماركسية الشرعية» -تشويه بورجوازي ليبرالي للماركسية،ظهر كتيار اجتماعي سياسي مستقل في العقد العاشر من القرن التاسع عشر بين المثقفين البورجوازيين الليبراليين.في ذلك الزمن كانت الماركسية قد انتشرت في روسيا على نطاق واسع نسبيا،فشرع البورجوازيون يروجون بنظراتهم في الجرائد و المجلات الشرعية،العلنية،تحت راية الماركسية.و لهذا أطلق عليهم اسم «الماركسيين الشرعيين».
في معرض انتقاد الشعبيين لدفاعهم عن الإنتاج الصغير، حاول «الماركسيون الشرعيون» أن يستعلوا الماركسية في هذا النضال، و لكن مطهرة من كل ثورية.فقد نبذوا من مذهب ماركس الأمر الأهم:تعاليمه بصدد الثورة البروليتارية و ديكتاتورية البروليتاريا.
كان ستروفه زعيم «الماركسيين الشرعيين».
الزومبارتية- تيار بورجوازي ليبرالي اسمي باسم أحد أيديولوجي الليبرالية الاقتصادي البورجوازي المبتذل الألماني زومبارت.و قد كتب لينين يقول أن زومبارت استعاض «عن الماركسية البرينتانية،مستعملا تعابير ماركس،مستشهدا بأقوال متفرقة لماركس،متسترا برداء الماركسية» (لينين.المؤلفات الكاملة،المجلد 12، ص 335)-ص 77.
13- المقصود هنا كومونة باريس في عام 1871- أول تجربة في التاريخ لديكتاتورية البروليتاريا؛حكومة ثورية للطبقة العاملة و أنشأتها الثورة البروليتارية في باريس.دامت 72 يوما-من 18 آذار (مارس) إلى 28 أيار (مايو) 1871.
14- المقصود هنا الأممية الأولى(جمعية الشغيلة العالمية)- أول منظمة عالمية جماهيرية للبروليتاريا، تأسست عام 1864 في إجتماع عالمي في لندن عقده العمال الأنجليز و الفرنسيون.كان كارل ماركس منظم و قائد الأممية الأولى/و واضع «بيانها التأسيسي»، و نظامها الداخلي و غيرهما من الوثائق البرنامجية و التكتيكية.
كان المجلس العام لجمعية الشغيلة العالمية الهيئة القيادية المركزية للأممية الأولى،و كان ماركس عضوا دائما في هذا المجلس.
قادت الأممية الأولى النضال الاقتصادي و السياسي الذي كان يخوضه العمال في مختلف البلدان، ووطدت التضامن العالمي بينهم.اضطلعت الأممية الأولى بدور بالغ في نشر الماركسية، في الجمع بين الاشتراكية و الحركة العمالية.دامت الأممية الأولى حتى 1876.
يقصد لينين «النداء الثاني من المجلس العام لجمعية الشغيلة العالمية حول الحرب الفرنسية-البروسية»،الذي كتبه ماركس-ص 78.
15-«الرجل المعلب»- بطل قصة بالاسم نفسه للكاتب الروسي أنطوان تشيخوف.نموذج التافه الضيق الأفق الذي يخشى كل جديد و كل مبادرة.ص 80.
16-سمكة بورية- نموذج التافه الضيق الأفق الجبان من حكاية الكاتب الهجائي الروسي سالتيكوف-شدرين «سمكة البوري الحكيمة»- ص 80.
17- راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 12 نيسان (أبريل) 1871.-ص 81.
18- يقصد لينين كتاب ماركس «الحرب الأهلية في فرنسا» – ص 81
19- الكاديت :أعضاء الحزب الدستوري الديمقراطي، الحزب الرئيسي للبورجوازية الملكية الليبرالية في روسيا. تأسس حزب الكاديت في تشرين الأول (أكتوبر) 1905. و قد انضم إليه ممثلو البورجوازية و الملاكين العقاريين و المثقفون البورجوازيون. لأجل خداع الجماهير الكادحة، أطلق على أنفسهم اسما مزيفا هو اسم «حزب حرية الشعب»؛ أما في الواقع، فإنهم لم يمضوا إلى أبعد من المطالبة بالملكية الدستورية. في مرحلة ثورة شباط (فبراير) البورجوازية الديمقراطية (عام 1917)، حاولوا إنقاذ الملكية. شغلوا في الحكومة المؤقتة البورجوازية وضعا قياديا، فطبقوا سياسة معادية للشعب،معادية للثورة.بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية(عام 1917)، ناضل الكاديت بنشاط ضد السلطة السوفيتية.
20- راجعوا رسالة ماركس إلى كوغلمان بتاريخ 17 نيسان (أبريل) 1871.-ص 83.
المصدر : مجلد رقم 3 من مختارات لينين. دار التقدم موسكو
كتابة الكترونية : http://unem-vdb.maktoobblog.com