مأساة الكتاب الروس .
محمد السعدي
تحت هذا العنوان قرأت مقالاً للاستاذ جودت هوشيار ، المقيم في الاتحاد السوفيتي في حقبة ستينيات القرن الماضي فأعتمدت على مقاله في إستقصاء جوانب مهمة في سطور هذا المقال ، ونشط من قراءاتي السابقة عن يوميات الادب الروسي ، ومن خلال دراستي للادب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد وأطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورساميين . بدءاً من عصر القياصرة الى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية .
مصير الادباء الروس كان يرهقني في مصيرهم المحتوم الى الموت إنتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعز عمرهم الانساني والابداعي ومعتركهم الحياتي .
بقيت لسنوات أتسأل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل الانساني والابداعي من تاريخ أدباء روسيا ومصيرهم المستعجل الى الموت .
هل قسوة الانظمة في قمع أبداعاتهم سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل إبداعهم الانساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم الى المصير المفجع ؟. وهل مفهوم الموت في النتاج الانساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم الى الموت الزكام ؟ . هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدعي شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وبقمة تألقه أن ينتحر أو يقتل جبرأً مثلما وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستوفسكي الى مايكوفسكي وسيرغي يسينين .
الكساندر بوشكين .. شاعر روسيا الاول وطنياً ووجدانياً ورمزها ، نفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الاول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الادبية والانسانية الا أن رتبت له بدعة المبارزة السائده آنذاك لينتهي ميتاً . ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ” موت شاعر ” .. سقط الشاعر .. عبدا للشرف ..سقط .. وكان مفتريء عليه بأفتراءات خبيثة . مما هزت أركان روسيا من أقصاه الى أقصاه ، لينفيه القيصر الى منطقة القوقاز . عرف شاعراً وكاتباً مبدعاً بالعديد من الروائع الادبية والذي جسد من خلالها إبداعات الانسان ” بطل من هذا الزمان ”روايته الوحيدة ، لكن في ملحمته الشعرية التي أرثى بها شاعر روسيا الاول الكساندر بوشكين بعد موته ، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة ومن ثم أدت الى قتله أيضاً.
ونال الآخرين من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان توركنيف الى الناقد الديمقراطي بيلينيسكي ومروراً ب ليو تولستوي ونيقلاي غوغول وأنطوان تشيخوف ، أما فيودور دوستويفسكي فقد حكم عليه بالاعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر ولا زال سر موته المبكر لغزاً .
لم يكن حال الادباء والشعراء والكتاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حال من الزمن الذي مضى ، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحق مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم الى مداحين وطبالين لشخصه ونزقه ومن عارضه أو صمت تلقى حتفه الابدي ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزب الفن ونحن تلقفناه أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية . يقول أميل حبيبي : نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين . الشيوعيين جبلوا من طينه خاصة. وثمة من عاصر التجربة المرة وأستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعيين . ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس ، فاغلب الذين ماتوا أو إنتحروا الشبهات تدور حوله في قتلهم . يقول سيرغي دوخلاتوف: نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله ، ومع ذلك أريد أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير له .
الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة ولم يعر إنتحارها أهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الادبية وظلت قصائدها ممنوعة الى أواسط الخمسينيات بما تمتاز من ثقافة وتمرد ورفض وثمالة في المعاني .
كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الادبية والفكرية ، ويحضر شخصياً المسرحيات والامسيات الادبية ممن تنال أقبالاً جماهيرياً في الاوساط الشعبية ، وقد حضر وشاهد مسرحية ” أيام تورين ” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الاوبري في موسكو ، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية سخرية من النظام الشيوعي وبولغاكوف ليس منا ، وما تعرض له هذه الروائي العبقري من سوط ستالين ورفاقه ، فمات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين .
وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن ” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً ” كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا .
في عام ١٩٣٤ أنشأ ستالين ” إتحاد الكتاب السوفييت ” . وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الادبية ، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها ومن يخرج على طاعتها يتعرض الى العزلة والقتل .
كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الاخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصيا . ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعيه شعبه .
بعد المؤتمر العشرين للحزب في عام ١٩٥٦ حين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزنا عميقاً ، وشعر بالألم والندم ، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير ، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد ، فاطلق الرصاص على نفسه ليرتاح الى الابد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة الى اللجنة المركزية للحزب ، والتي كتبها قبل الانتحار .
بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا ، أما من بقى منهم لقد تعرض الى المضايقات والتهميش وتقيد أبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم .
مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر الى الخارج لتلقي العلاج . يروي البروفيسور ضياء نافع في يومياته اليومية عن روسيا والسوفييت وعيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات ، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بأنهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفيتي .
أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين مؤلمة ، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام١٩٢٥ وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه وهو الشاعر الاكثر شعبية في تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات ، عربيا يكون قريباً جدا الى شاعرنا الكبير نزار قباني من دغدغة أنوثة ومشاعر ورومانسية المرأة . وترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم ، لانه لم يجد حبرا فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها ” ليس جديدا في هذه الحياة أن نموت ” وليس جديدأ بالتأكيد أن نعيش .
ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الانتحارات وسط الشباب والمثقفين مما أثار هلع السلطات في الحد من هذه الظاهرة الخطيرة ، وقد قيل عنه بعد رحيله من مبدعي روسيا ثراءاً طيبا وكلاما عميقا .
فقال عنه بوريس باسترناك : لم تلد الارض الروسية من هو الاكثر وطنية وأفضل توقيتا مما هو سيرغي يسينين .
أما مكسيم غوركي فقال عنه : أن يسينين ما هو بالانسان قدر ما هو كائن خلق من أجل الشعر حصراً.
أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : أن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها من أعماقه .
أما الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي ” مأساة آخرى في تاريخ روسيا مست الوجدان العالمي والانساني ، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد إنتحار يسينين يقول فيها : في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت ، أن تصوغ الحياة أصعب بما لا يقاس ، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهداة اليه من مخابرات الكرملين .
وقال عنه الاديب الروسي فيكتور شكلوفسكي : أن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه ، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب .
مكسيم غوركي ورائعة رواية الام ” مات في ظروف غامضة ويقال أنه جرى تسميمه وأن ستالين شخصيا كان ضالع في قتله ، لانه مكسيم كان مستاءاً وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والادباء تعرضوا الى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الادبية لكن مواقفهم الانسانية والوطنية هي التي حتمت موتهم السريع والمرعب .
فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب ” أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وأسحاق بابل فقد حكم عليهما بالاعدام ونفذ فيهما الحكم سريعا ، أمام هذه التراجدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الادب والادباء والشعر والشعراء والحرية والابداع نقف عند قول فولتير ” إذا كان لي أبن ، لديه ميل الى الادب ، فان العطف الابوي يدفعني الى أن ألوي عنقه. مارس ستالين الارهاب الفكري بحق مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير بل والتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائين ممن يبدع ويكتب بحرية وأبداع خارج ما يسمى في حينها الثورة الثقافية .
عندما منح الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للاداب منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف قبولها عام ١٩٥٨ عن روايته ” دكتور زيفاكو ”. وتعرض الى حملة تشهرية واسعة فاصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠ .
أما الشاعر جزويف برودسكي فقد إعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين وفي عام١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وأنتزعت منه الجنسية السوفيتية ، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام١٩٨٧ ، وكان عمره٤٧ عاما أي أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة .
في عام ١٩٦٨ حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته ” الدائرة الاولى ” في الخارج ، وصفته وسائل الاعلام السوفيتية ب الخائن والعميل ، وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للأداب في عام ١٩٧٠ ، طرد من إتحاد الكتاب السوفييت ، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفيتية وطرد الى خارج البلاد .
أغلب الانظمة السياسية في العالم لم تعد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدعين لا يتعاطى مع مشاريعه السياسية . ومفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعين الانسانية والسياسية . في فرنسا منعت كتب كانت وفولتير لانها ضد توجهات النظام السياسي القائم في البلاد . وبعد أن أستلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمباديء أثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤ ، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة . وينقل بعد أن فاحت رائحته بقتل رفاقه ، هم الرسام ” بيكاسو ” برسم صورة بشعة له ، فتعرض الفنان بيكاسو على أثر ذلك الى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي .
أما في فضاءات الحضارة العربية والاسلامية وقتل علمائها ومبدعيها الحديث عنها مرعب ومخيف ، بدءاً من الخوارزمي ومرورا ببشار أبن برد ، وأمرؤ القيس ، وبدر شاكر السياب مات مهموما ومعزولا ومتروكا ، وعبد الامير الحصيري مات منغصاً رثاً في حانات بغداد ، ولي عودة بفصل عن أنجازات تلك الامة في قتل وتهميش مبدعيها .
بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وأرهاب ومصادرة أبداعهم الانساني والوطني ، قد يصفني بعضأ من السطحين أنني معادي الى الفكر الماركسي . فانني إعلن وبزهو تام إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً ، وحبي له هو حافزي الاول والاخير في تعرية ونقد الاخطاء التي أدت الى تدمير هذه التجربة الخلاقة ودروسا للمستقبل .