مدخل سوسيولوجي.. نساء بغداد ودائرة العنف في رواية مفاتيح مدينة
لقاء موسى الساعدي
تظهر مدينة بغداد في رواية هيفاء زنكنة مفاتيح مدينة(1) مثل كائن حي ينمو ويشيخ ويهرم، ويقترن هذا النمو والهرم بالشخصيات حتى يمكن ان نعدُ هذه الشخصيات هي مفاتيح المدينة منها تفتح عوالمها على كل ماهو مخفي خلف الأبواب المغلقة، حيث الأجيال المتعايشة لكنها مختلفة تتصارع فيما بينها لتكتشف طريقها في هذه المدينة الممتدة فتتفاعل تفاعلاً عضوياً يجعل المكان هو الإنسان والعكس ممكن الإنسان هو المكان ايضاً. لذلك ليس للمدينة مفتاح واحد بل مفاتيح مجموعها يشكل فضاء المدينة المفتوح على تنوع إجتماعي كبير لا أحسب انه متعايش بشكل صحي وإنساني وإنما تسوده قيم التراتب بشروطها غير الإنسانية في القيمة والحرية والمكانة، فالنساء يعيشون عوالمهم المخفية الداخلية خلف ابواب، والرجال يلقون بظلالهم الثقيلة على عالم البيت الداخلي، ويحيطون نساء العائلة بأطنان من العنف والقهر المتوارث الذي يفتك بالجميع.
القارئ لهذه الرواية يلحظ مجموعة مقاربات مقترنة ببعضها المقاربة الأولى تتعلق بتطابق المكان مع الناس الساكنين فيه في ببغداد ستينيات القرن العشرين حيث بيت سيد هادي وعائلته في الحيدر خانة الذي ضم ثلاثة أجيال متعاقبة، وموقعه المركزي في قلب بغداد القديمة، على مقربة من ساحة الميدان وشارع الرشيد وجامع الحيدر خانة. ورثه سيد هادي عن أبيه وهو بيت كبير مكون من ثلاثة طوابق تتوسط الحوش شجرة السدر الجالبة للبركة، في هذا البيت تبدأ أحداث الرواية وتتكشف كل شخصياتها من الأبناء الى الأحفاد.
حياة اجتماعية
في البيت تظهر الحياة الإجتماعية الساكنة ومستوى الوعي الساكن الذي عبر عنه السيد هادي ونساء البيت فهو يدور بين النسوة زوجته، وبناته راضياً مرحاً يقص القصص ويجد في قصص الف ليلة وليلة متعةً وتسليةً حتى بعد ان أوشك البيت على الإنهيار على رأسه وعائلته من أثر الزمن وقلة الصيانة. (( الصالة الهول كانت مجهزة بأريكتين خشبيتين وطاولة واطئة، إلا انهن كن يفضلن الجلوس على الأرض، خصوصا في فصل الشتاء عندما يتم فرش السجاد الإيراني على الكاشي البارد. يلتفن حول مدفأة علاء الدين النفطية وتفوح في الغرفة رائحة الشاي المخدر بالهيل، الموضوع على المدفأة منذ الصباح، تمتزج رائحته مع رائحة قشور البرتقال المحترق ببطء شديد على غطاء المدفأة مساءً))2.
المتغير الوحيد هو قدوم عامر ليسكن في بيت سيد هادي نزيلاً في واحدة من غرف البيت حتى تتطور علاقته بالسيد هادي فيخطب إبنته سلمى ويتزوجها، وعامر الشخصية الحركية الوحيدة في عالم البيت الساكن فقد كان يتنقل للتجارة بين بغداد وكركوك وقلعة دزة، وهو الذي نقل عالم الأسرة من بغداد القديمة في الحيدر خانة الى بغداد الحديثة في أحيائها الناشئة التي ضمت فئات مختلفة من الناس وغيرت التركيبة السكانية لعموم بغداد، يخطط عامر لشراء بيت كبير في مدينة الوشاش لينفرد بعائلته ويكون لكل فرد غرفته الخاصة.((رسم والدي خارطة بيتنا الجديد بنفسه، وسألني أنا وصالح عن حجم الغرف التي نريدها قلت: أريد غرفتي صغيرة وحلوة… أمي طلبت ان يكون المطبخ كبيراً، حتى نأكل فيه ولا نوسخ الصالة…بيتنا الجديد بلاحوش وبلا سدرة نتسلقها ونأكل ثمارها، لكننا صرنا نجلس في الصالون بدون ان ينث على رؤوسنا الجص من السقف، مثلما كان يحدث لنا في بيت جدي))3.
البيت الجديد ليس فيه الحوش الداخلي كما في بيت الحيدر خانة، والحوش ليس متغيراً بسيطا فقد كان له دور في جمع العائلة الممتدة وتحول حياتهم جميعا إلى قصة واحدة ممتدة تتشابه في كل تفاصيلها ولا يتغير غير الأشخاص، العالم الخارجي معزول خلف الجدران. وبالإنتقال الى البيت الجديد الذي يخلو من الحوش الداخلي صارت البيوت مواجهة للشارع ومطلة عليه والمطابخ والحدائق يفصلها عن العالم الخارجي سياج يتشابه في كل البيوت، هذا المتغير المعماري لم يكن طارئاً بل عكس تحولاً إجتماعياً في حياة الناس ولاسيما الأحفاد في تطلعهم نحو عالم اخر خارج البيوت عالم مثله الحفيد صالح الذي إمتطى صهوة دراجته الهوائية وراح برفقة صديقه يكتشف بغداد بشوارعها وأسواقها وسينماتها، بينما تحسده أمل على هذه الحرية وتجد تشجيعاً من أبيها عامر لكن الجدة فضيلة كانت لرغباتها بالمرصاد تحاول قص أجنحتها وتحجيمها في لبيت رغم تميزها الدراسي.
المقاربة الثانية التي تظهر بشدة للقارئ لهذه الرواية تتعلق بحياة الشخصيات النسائية خلف جدران البيوت حيث تخضع النساء على مدى ثلاثة أجيال الى صيغ من العنف المتعارف عليه والمقبول إجتماعياً يقع بشكل متكرر عليهن جميعا كما ويمارسه الرجال بوصفه الحق المكتسب الذي لا يقبل النقاش حتى من الضحيا أنفسهن.
فعل اجتماعي
يمكن أن نصف هذا النوع من العنف بالعنف الإجتماعي كظاهرة سوسيولوجية تتجلى في الفعل الإجتماعي الكلي، فليس العنف بالمعنى الإجتماعي هو مجموع الأفعال الصادرة عن الأفراد في مجتمع ما، بل إنه الفعل الصادر عن نسق أو مجموعة أنساق في مجتمع ما، أي انه الفعل الذي يقوم به نسق إجتماعي قائم بذاته في مجتمع ما، خلال مجال زماني ومكاني معين مهما كان محدوداً.4
الحدث الأعنف في الرواية والذي مثل الحدث المركزي هو حدث إغتصاب منعم زوج ثريا لإبنته سناء والذي تسبب بهروب سناء من منزل أبيها وإصابة ثريا بإنهيار عصبي أفقدها النطق والإحساس بما حولها ونوبات البكاء والنواح الطويلة التي تغرق فيها ثريا بعد هربها بدورها من بيت زوجها منعم المفوض في الشرطة.
لا أحد يعلم ماذا حدث لسناء ولم يظهر صوتها في الرواية ربما لأن الكاتبة أرادت ان تظهر مدى خفوت صوت الضحية ومدى ضياع حقوق المظلومين فلا أحد يسمع لهم أو ينتظر دورهم في حكاية مأساتهم، الجميع يذهب إلى التكهنات الجاهزة والتي هي بدورها عنف قاتل، فحين قدمت بهيجة أم سناء بلاغاً للشرطة بإختفاء إبنتها سخر منها المأمورقائلا: (بان إبنتها هربت مع رجل تحبه وسيعيدها الرجل سالمة معافاة ومعها هدية تفرح الجميع، لم تفهم بهيجة ما عناه فقال موضحاً ستعود إليكم والهدية في بطنها وبدأ يقهقه منتشياً)5.
نفس الإتهام كررته ساجدة عمة سناء لسلمى فتحدثت عن نشأة سناء بدون أمها وإحتمالية ان رجل خدعها واردة جدا.
الكل يعلم بان منعم سكير عربيد عنيف لكن لا يجرؤ أحدعلى مواجهته رغم ان أكاذيبه بشأن إبنته مكشوفة للجميع.
أما ثريا زوجة منعم الضحية التي أفقدها مشهد الأب يغتصب إبنته صوابها فلم تجرؤ على البوح وظل صوتها خفياً إلا من بضع كلمات عن سناء المظلومة ولم يستمع لأنينها احد بل تركت لحالها مع الألم تئن وتنوح.
النساء في الرواية ضحايا للعنف المخفي كسناء وللعنف الظاهر والمموه فكل شخصية نسائية قد تعرضت للخيانة الزوجية وتم إهمالها لصالح العشيقة وظلت الزوجة تعاني ألم الخداع دون ان تتمكن من الشكوى ولو بكلمة، فمن الصعب عليهن مقاومة موقف الهيمنة والتملك والقمع الذي يحضر غريزياً لدى الذكور عند إعراب الانثى عن إعتراضها على سلوك رجلها. فحتى الجدة فضيلة تعرضت للضرب من سيد هادي حين إعترضت على علاقته بعشيقته خيرية. أما عامر فخيانته لسلمى مستمرة ولا تتوقف بشكل مغامرات عابرة. وهنا يتصف سلوك المذكر في الرواية بالشمول والإمتداد فيما يتجاوز العلاقات الأسرية الخاصة الى الفضاء الإجتماعي والسياسي تتموضع في أعراف وقيم وأخلاقيات تبني التراتب الإجتماعي والجنسي.
وتحضر سلطة المؤنث أو سطوة المؤنث على المذكر،كإستثناء في الحيز الخاص وفي نطاق فردي6. في علاقة عامر بسيدة الجبل أغا جن في قلعة دزة، وهي سيدة متفردة تملك سلطة على أبناء عشيرتها وتحكم فيهم بديلاً عن زوجها بعد وفاته، هي من بادر بالعلاقة مع التاجر عامر القادم من بغداد لملء فراغ ترملها، وهي من أنهى العلاقة بعد ان خشيت على سمعتها من أقاويل الناس قالت أغا جن لعامر((ان علاقتنا يجب ان تنتهي اليوم قبل الغد. أنت مازلت شاباً وزوجتك وطفلاك بحاجة لك أكثر مني.. ان السنة الناس طويلة، ولا قدرة لدي بعد على محاربتها.))7.
أغا جن حضرت كسلطة أنثوية إستثنائية وفرتها بيئة الجبل لم تتوفر للنساء في بغداد فقد غلب على الشخصيات النسائية في الفضاء العام للرواية التصرف كضحايا وأجساد تسير بلا أرواح وتخضع دون مساءلة أو تمرد إيجابي يفضي لتغير الأحوال، الجميع صمت كصمت ثريا على جريمة إغتصاب الأب لإبنته.
في ظل هذه العلاقات غير المتوازنة داخل البيوت بين الأزواج وزوجاتهم يحضر دور الجيل الثالث الذي إمتلك وعياً جديداً لما حوله من أحداث، أمل التي روت ما يحدث داخل البيت وكانت العين التي رصدت علاقات الأمهات بالأباء وذاكرتها كطفلة محملة بمشاهد الخيانة التي شهدتها بنفسها أو التي سمعت عنها من الأخرين، أمل كانت قوة الأنثى الرافضة لهذا الواقع كانت تشيد في عقلها عالما مختلفاً وتعترض على ما تشاهده يومياً من أحداث مكررة وهي الصوت الوحيد الذي إنطلق صارخاً متسائلاً عما جرى لسناء وخالتها ثريا ( طول الليل تبكي.. وتحتضنني وتقول حرام حرام وخطية سناء.. أسألها خالة لماذا؟ لا تجاوب، واسأل امي لا تجاوب …وكلما أسأل سؤالاً تقولون عيب……. حين أكبر لن أتزوج ابداً).8
صرخة أمل إعتراض جيل كامل على سكوت الأباء على جريمة يدركونها ويسكتون عنها خوفاً أو لا مبالاة وأمل تجاوزت بكلماتها وعي المشكلة الى البحث عن حل لهذه المشكلة ولو كان فردياً يتعلق برفض الزواج بشروط أهلها وشكله الذي ألفته في بيت العائلة.
أما صالح وصديقه فلاح فقد إنكشف لهم الواقع الإجتماعي الخارجي الذي كان يموج ويفور بالتغييرات والرؤى الجديدة التي عبرت عن تطلعات جيل جديد ورؤيته للعالم تلك الرؤية التي عبر عنها لوسيان كولدمان بانها مجموعة الافكار والمعتقدات والتطلعات والمشاعر التي تربط أعضاء جماعة إنسانية وتضعهم في موقع التعارض مع مجموعة انسانية اخرى.9
فلاح كان يحدث صالح عن ضرورة ان يغاد بتفكيره عالم البيت ومشاكله ليفتح عينه على عالم الوطن والمجتمع الكبير الذي لا يوفر العدالة لأفراده ولا يرى لفقرائه حقاً في الحياة الكريمة، تحدث فلاح عن سكان صرائف بغداد والعمال الذين لا تكفيهم اجورهم وسط ظروف معيشية بائسة وضرورة ان يكون لهم دور في تغيير المجتمع من حولهم. فلاح نقل صالح من وعي الواقع الحاضر الذي يتسم بانه وعي لحظي وفعلي يعيش المشكلة لكنه لا يفكر بحلول لها، الى الوعي الممكن الذي يقدم تصوراً أيديولوجياً مستقبلياً يسعى للتغيير والتطوير يعبر عن طبقة اجتماعية وجيلاً من الشباب اليساري الذي بدأ يتوسع في مجتمعات تخضع للسلطة الإستعمارية وتفتقر للعدالة الإجتماعية.
تعاطى النص مع بنية التراتب الغير عادلة عبر الشخصيات النسوية المعنفة في داخل البيوت، وهي البنية الاولى لمعنى المجتمعات الذكورية التي تعيش حالة اللاعدالة والاإنسانية حيث يكون للذكور سلطة مطلقة وظالمة على النساء، تنعكس على البنية الإجتماعية التي تصنف أفرادها الى علية القوم ممن يتفردون بالإمتيازات والفقراء الذين سحقهم الفقر في الفضاء الإجتماعي الكبير. فتستمر دائرة العنف من النساء الى الفئات الأضعف إجتماعياً لتخلق مجتمع غير متوازن يغلي على بركان.
كما يمكن ان يتضمن هذا النص بنية رمزية خفية تشير إلى إغتصاب السلطة لحياة الأفراد ولاسيما جيل الشباب، يشير إليها حدث إغتصاب سناء من أبيها مفوض الشرطة وتغاضي السلطة عن التحقيق في الأمر وصمت المجتمع الجبان عن هذا الفعل وكأن أمرا لا يعنيهم.
يتداخل في هذا النص الروائي الإجتماعي بالسياسي والثقافي والنفسي، وثمة علاقة إحتجاج قائمة بين هذا النص بوصفه بنية لغوية، والعالم المستمد من الحقل الإجتماعي والأيديولوجي الذي عبر عنه النص، يظهر جدلية علاقة التأثير والتأثر بين العمل الادبي والواقع الاجتماعي.
الهوامش
1- هيفاء زنكنة, مفاتيح مدينة, دار الحكمة- لندن,ط1? 2000
2- الرواية: 9
3- الرواية: 86
4- ينظر: أ. عبد الحق مجيطنة، مفهوم العنف الإجتماعي في البحوث السوسيولوجية والطرح الايدلوجي (( قراءة إبستيمولوجية))، المجلة العلمية لجامعة الجزائر،كلية الاداب، 3, المجلد 6, العدد11 , 2018 ? ص:142.
5- الرواية 162
6- ينظر: خالدة سعيد، في البدء كان المثنى، دار الساقي، بيروت ، ط1? 2009 ?ص:7 .
7- الرواية: 64
8- الرواية: 202
9- د. جميل حمداوي، مدخل الى البنيوية التكوينية، موقع مجلة ندوة الألكتروني.