يا أم الفستان الأحمر: سيرة الأغنية العراقية في ألف يوم ويوم
كثيرة هي الكتب التي تناولت تاريخ العراق في المئة سنة الأخيرة. فخلال العقود الأخيرة كان هذا البلد يشهد تحولات وأحداثا عصيبة، لن يكون لها تأثير في الفضاء السياسي أو العمراني حسب، بل طال الحياة اليومية للعراقيين. مع ذلك، يُلاحظ في الكتابات العربية ندرة الدراسات والكتب التي حاولت قراءة ما يحدث من تحولات يومية. إذ يُقرأ العراق في الغالب من خلال زاويتين؛ الأولى الزاوية السياسية/الحزبية العراقية، والثانية الزاوية الطائفية بعيد الغزو الأمريكي للعراق.
ويشكّل كتاب الشاعر والناقد العراقي علي عبد الأمير «رقصة الفستان الأحمر» محاولة عراقية وعربية جديدة، لا تركّز على المشهد السياسي العنيف، بل تحاول تلمّس تبعات ما حدث من تغيرات على صعيد أذواق وثقافة العراقيين، وحياتهم اليومية. ففي هذا الكتاب، يحاول عبد الأمير رواية سيرة الأغنية العراقية في سبعة عقود تقريبا، وكيف تأثّرت هذه الأغنية بالأوضاع السياسية، حتى غدت بمثابة بارومتر الوعي الاجتماعي والثقافي، للفترة التي أنتجتها.
ولعل ما يميز طرح الأمير لا يقتصر على هذا الجانب حسب، وإنما سيكشف لنا من خلال تتبعه لتاريخ الأنغام العراقية، أنّ هناك أسطورة تشكّلت حول العراق وموسيقاه. تقول هذه الأسطورة إنّ لمسة الحزن الموجودة في النغمة والصوت العراقي ليست وليدة هذا الزمن، بل تعبّر عن موروثات ثقافية أعمق، تعود إلى زمن البكاء على الإله تموز، ولاحقا على الحسين بن علي. في حين يرى الأمير أنّ هذه القراءة البنيوية لم تعد جديرة دقيقة، فالموسيقى العراقية الحزينة اليوم هي وليدة التطورات التي عاشتها البلاد في العقود الأخيرة. ومع هذه المقاربة، سنكتشف أنّ موسيقى العراقيين حتى الخمسينيات والستينيات كانت موسيقى الفرح والأمل، والانفتاح على الحداثة، قبل أن تأتي لاحقا الأحزاب الأيديولوجية والحرب العراقية الإيرانية، وسقوط بغداد، لتعلن عن قدوم نوع آخر من الكلمات والموسيقى والبذاءة أيضا (أغنية البرتقالة مثالا) وهو قدوم يفسّره المؤلف لأسباب عديدة منها اجتياح الريف للمدينة العراقية، وظهور الأغنية الملتزمة.
من الموصل إلى بغداد
لا تبدو الأغنية العراقية الجديدة منقطعة عن التحولات التي كانت تعيشها الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة. إذ نرى أنّ قسما من موسيقيي العراق ولدوا في هذا الفضاء، ومن بينهم حنا بطرس المولود في مدينة الموصل عام 1896، الذي درس الموسيقى في المدارس العثمانية، وعزف لاحقا في الجيش العثماني، خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد سقوط الدولة العثمانية انتقل لتدريس الموسيقى. ولأنّ العراق كان يعيش مرحلة جديدة مع قدوم الملك فيصل، سار بطرس بالمقابل إلى تأسيس أول معهد للموسيقى في البلاد، لكن اللافت هذه المرة أنّ مقر المعهد لن يكون في الموصل، التي يبدو أنّ دورها سيتراجع مع رحيل العثمانيين، لتحل محلها بغداد. ومع هذا التأسيس، فتح الباب أمام ظهور حركة حداثة موسيقية عراقية، قادها الموسيقي العراقي محيي الدين حيدر. في هذه الفترة أيضا، سيعيش العراق صورة جديدة تتمثّل في ظهور شخصية المغني، وهو يقف على المسرح، فعلى صعيد غناء المقام، كان من النادر قبل هذه الفترة وقوف المغني على قدميه، لكن مع الأربعينيات ظهر تقليد جديد لما كان يجري في بعض البلاد العربية، بسبب ضخامة الفرقة العازفة واستعمال المايكروفونات، ما أتاح للمغني قدرة الانفراد والبروز. وكان أول من غنّى في بغداد واقفا الأستاذ القبانجي، ومن بعده يوسف عمر وعبد الرحمن خضر، وصار وقوف المغنين حالة طبيعية عند الغناء. واللافت أيضا في فترة العشرينيات إلى الأربعينيات أنّ كثيرا من أغاني هذه الفترة أخذت ترسم لنا واقع العراقيين. فعند ظهور (السدارة) التي اعتمر بها الشباب العراقي والشخصيات الرسمية في أواخر العشرينيات، غنى القبانجي أغنية «يا حلو يا بو السدارة، متيمك سوي له جارة» وفي أيام الحرب العالمية الثانية شاعت أغنية التموين «عمي يبو التموين يبه/دمضي العريضة، دمضي».
بعد منتصف الثمانينيات، كانت مجموعة من المواهب الموسيقية العراقية تنهي دارستها في معاهد وكليات الفنون والموسيقى. وستتمكّن هذه المجموعة من إعادة العافية قليلا للأغنية العراقية العاطفية، التي سارت هذه المرة وراء متطلبات المرحلة: قصيرة، إيقاعها سريع ونسيجها الشعري يعتمد الدارجة التي آخت بين لهجة المدينة (بغداد) والدارجة الريفية (البصرة) والبدوية (الرمادي).
ناظم الغزالي.. صوت الطبقة الوسطى العراقية
وخلال فترة 1940ـ 1970، سيمتاز الغناء المديني البغدادي بمسحة من الفرح والتعبير الراقي عن المشاعر، وهذا ما كان يعكس حالة الانفتاح الاجتماعي الذي عاشته البلاد. ويعدّ المطرب العراقي ناظم الغزالي مثالا على هذه الفترة، فمن خلال أغانيه يمكن تلمّس ملامح الشخصية العراقية، حيث نلاحظ في أغنياته انكسار المحب وحياءه، مثلما في صوته قوة جهيرة أقرب إلى الحدة، كما يمكن تلمس الجرأة في تغيير ما بدا مقدسا من أشكال موسيقية، ولذلك أصبح الغزالي معشوق نساء الطبقة الوسطى العراقية، عبر قصص الحب المحلقة في أغنياته. وتميّزت هذه الفترة أيضاً بظهور أصوات نسوية عديدة، من بينها مثلا مائدة نزهت صاحبة أغنية يا (أم الفستان الأحمر) ووحيدة خليل، التي سميت بأم كلثوم البصرة. ويمكن القول إنّ هذا النوع من الغناء استمر حتى السبعينيات مع ظهور سعدون جابر، الذي طبع الأغنية العراقية بنمط من الأداء يغلب عليه التأسي ونعومة حزينة، لكن هذا المشهد سيتغير مع قدوم الأغنية الثورية أو الملتزمة بعيد 1967، إذ ظهر فنانون مثل حميد البصري وشوقية العطار وجماعة تموز للأغنية الجديدة وفرقة الشموع، التي ضمت عددا من الطلبة العراقيين في موسكو. وسيترسخ هذا المشهد أكثر مع قدوم الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، إذ سيُؤمّم الوسط الغنائي والموسيقي العراقي ليصبح مؤطّرا بالمشاعر الجماعية الحماسية. ولذلك أصبح من النادر رؤية مطرب أو ملحن عراقي لم يندرج في صناعة أغان تنادي أجواء الخنادق في جبهات القتال.
كاظم الساهر: استئناف الأغنية العاطفية
بعد منتصف الثمانينيات، كانت مجموعة من المواهب الموسيقية العراقية تنهي دارستها في معاهد وكليات الفنون والموسيقى. وستتمكّن هذه المجموعة من إعادة العافية قليلا للأغنية العراقية العاطفية، التي سارت هذه المرة وراء متطلبات المرحلة: قصيرة، إيقاعها سريع ونسيجها الشعري يعتمد الدارجة التي آخت بين لهجة المدينة (بغداد) والدارجة الريفية (البصرة) والبدوية (الرمادي). ويمثّل كاظم الساهر مثالا على هذه المرحلة، فمن خلال أغانيه فسح المجال لأفكار وأحلام جديدة. لكن في ظل ما سيعيشه العراق لاحقا مع أحداث 1991، لن يرى الساهر وآلاف العراقيين من حل سوى الهجرة واللجوء. وهنا أيضا سيقرر الساهر التعبير عن هذا الواقع الجديد للعراق من خلال عدة أغان مثل «رحال» و»استعجلت الرحيل» التي تجمع بين معنيين وحالتين، تشكلان وصفا للعراقي أيام حصار بلاده، وهجرات أبنائه. ففي أغنية «رحال» تبدأ الأغنية بضربات قوية على الطبول، فيما الكمانات تعزف بسرعة لحنا متكسرا، كأنها تشير إلى تكسرات النفس إزاء قوة المصائب المكفهرة التي تعبر عنها ضربات الطبول. في موازاة الساهر، ستبرز أصوات أخرى أيضا مثل حاتم العراقي، الذي يبقى في رأي الأمير صوتا غجريا يفتقر إلى عنصر البلاغة الادائية وسلامة الإلقاء الغنائي، وهيثم يوسف الذي بقي من الأصوات الصغيرة والفقيرة، وصلاح البحر وحبيب علي وقاسم السلطان وغيرهم ممن يسمون «مطربي قاع المدينة» الذين خلطوا بطريقة ساذجة بين غناء الغجر وغناء الريف، وتقليد الغناء العربي المعاصر القائم على ألحان الإيقاعات الراقصة.
لكن مشهد تحوّل الأغنية العراقية لن يتوقف عند هذا الحد، فبعد عقد أو أكثر تقريبا من زمن التسعينيات، سيكون العراق بأكمله أمام مشهد أصوات الدبابات الأمريكية وهي تخترق شوارع مدنه، وأمام صيحات آلاف المطالبين بالثأر الشيعي من خلال الطقوس الحسينية، التي أخذت تنتشر في مناطق واسعة. وهنا سيرى كثير من المطربين العراقيين أنهم باتوا عرضة للاعتقال وأحيانا الاغتيال من قبل جماعات طائفية. وسيروي لنا الموسيقي العراقي رحيم الحاج، العائد من أمريكا بعد عام 2003 إلى ضاحية الصدر في بغداد، قصة استيقاظه صباح أحد الأيام على صوت ابنة أخيه وهي تشدو بأغنية عاطفية شهيرة، لكن مع تغيير الكلمات. فالأغنية لم تعد تتحدث عن الحب الرومانسي، وإنما عن الحرام والحلال، وعن الجنة والخطايا. وأمام مشهد القتل اليومي، اضطر ملايين العراقيين لترك بلادهم نحو مدن عربية مثل دمشق، وهناك كنا أمام مشهد جديد يتمثّل هذه المرة باضطرار عشرات الفتيات والمغنيين العراقيين إلى العمل في النوادي الليلية. ولينعكس ذلك لاحقا من خلال أغنية «البرتقالة» للمغني علاء سعد، التي جاءت معبرة عن ذائقة جديدة في الشارع العراقي والعربي أيضا. وبذلك كانت الحرب في العراق تفتح الباب أمام عالم فوضوي من الأغاني والكلمات، والحزن الذي لا نهاية قريبة له في يومياتنا، كما يبدو…
كاتب سوري