فيلم «السبّاحتان» مساهمة في التزوير… حفرة سورية بالمرصاد… أردوغان وجمعية الأتراك المنتحرين
بيدر ميديا.."
فيلم «السبّاحتان» مساهمة في التزوير… حفرة سورية بالمرصاد… أردوغان وجمعية الأتراك المنتحرين
سلّمتُ نفسي لفيلم «السباحتان»، ضمنتُ منذ لحظات المشاهدة الأولى فيلماً مؤثراً، وقلت لا أريد أن أفسد المشاهدة بأسئلة السياسة، ولا بأي نوع من الأسئلة. منذ مشاهده الأولى امتلأتُ بالحزن والتأثر. يحدث ذلك أحياناً لمجرد أن تلمح التوهان والضياع في عينيّ لاجئ، اللاجئ الذي كنتُه، ولا أزال. يحدث أيضاً عندما يستعاد مشهد فيديو من بدايات الثورة في سوريا، كيف كانت الدنيا مليئة بالأمل، ووضوح الحقيقة، وباليقين. تحزن حين تسأل كيف لم يستطع العالم مشاهدة كل ذلك الوضوح، وتحار جواباً.
الفيلم يكتفي بالتحدث عن مجرد مأساة لاجئين هاربين لسبب ما، الخدمة العسكرية، القذائف الهاطلة على دمشق من جهة غامضة، وقد تكون هذه الجهة المعارضين السوريين.
و«السباحتان» مليء باللاجئين، سوريين وسواهم، كما يعرض في مشاهده الأولى فيديو للتظاهرات الأولى، مستعاداً في بيت عائلة بطلة الفيلم. أي أنه، لا بدّ، مليء بالدموع.
على سبيل التسليم أيضاً قررت أنني لن أكتب عن الفيلم، أساساً بات لسان حال المرء أن كل ما ينبغي أن يقال قد قيل، وأسئلة الكتابة قد تفسد عفوية المشاهدة والتلقي الحرّ.
سيرة سبّاحتين سوريتين تتدربان على يد أب، مدرب محترف للسباحة في دمشق، ثم استثمار العلاقة مع السباحة والماء في عبور بحر اللاجئين، وصولاً إلى التمسك بحلم الوصول إلى الأولمبياد، وتحقيق ذلك بالفعل عبر منتخب خاص باللاجئين، كل ذلك كان قماشة جميلة ومتينة لفيلم. لا شك أن صنّاع العمل متقنون، عارفون بصنعتهم، بالغنى الدرامي الذي توفره حكاية السباحتين.
جميل مثلاً إظهار الفارق بين سباحتين، أختين، إحداهما متفوقة دائماً، مثابرة على التدريب، مثل ماكينة ألمانية، وستصل تالياً إلى الأولمبياد، فيما الثانية متأخرة بفارق بسيط عن أختها، الفارق الذي سيتجسد بصورة أوضح عندما تقرر الثانية العودة (بعد وصولها إلى ألمانيا) إلى جزيرة يونانية لتساعد اللاجئين، ما يعرّضها تالياً للاعتقال، والمحاكمة، بحسب تترات الفيلم الختامية.
سينتهي الفيلم سريعاً (135 دقيقة)، سينتهي في منتصفه، عندما تصل اللاجئتان إلى الشاطئ، بعد صراع قارب اللاجئين مع البحر، يكون فيه للسباحتين دور البطلتين المنقذتين. سينتهي وسيكون لنا وقت مديد في التساؤل، خصوصاً مع متابعة الحوارات غير المدروسة بين الأختين، أو الرسائل الفيديوية بين الأختين وعائلتهما في دمشق، تقول لنفسك ألا تتسع كل هذه الثرثرة لتلميحة واحدة عن السبب الأساس في التسبّب بمأساة اللاجئين السوريين، أما من أحد في الفيلم يضيق ببشار الأسد! وبالعكس، عندما تستعرض الفيلم بحثاً عن جواب ستجد أن هناك قصدية مذهلة بمثابرتها في تجنب الإشارة إلى نظام الأسد. وعلى سبيل المثال، تتحدث إحدى السباحتين عن عدم رضا الأب عن الوضع، فتقول إنه خسر المشاركة في الأولمبياد لأنه رفض الخدمة العسكرية الإلزامية (أي نعم، هكذا)، لماذا؟ لأنه يرفض السلاح. سبب كهذا لم يكن موجوداً قبل الحرب والثورة، أي في الفترة التي كان على الأب أداء الخدمة العسكرية، وهنا تفهم أن التمويه مقصود ومحسوب، وبالتالي فإن الفيلم يكتفي بالتحدث عن مجرد مأساة لاجئين هاربين لسبب ما، الخدمة العسكرية، القذائف الهاطلة على دمشق من جهة غامضة، وقد تكون هذه الجهة المعارضين السوريين، لو اضطر صنّاع الفيلم للجواب.
خسرنا فيلماً كان بإمكانه بعبارة واحدة فقط أن ينجو، أن يصبح فيلمنا، مهما حمل من أخطاء، لا أن يصبح الفيلم المشغول بالتمويه والإنكار، وبالتالي التزوير.
نفهم تماماً كيف يمكن لعمل فني ما، يتناول جزئية ما، ألّا يتطرق إلى النظام، فليس معقولاً، ولا هو شرط قاهر، أن يشتم الفن النظام حتى يمرّ، لكن هذه القصدية في تجنب قول الحقيقة هي المريبة. وبإمكان المرء أن يميز بين حبكة لا تتحمل السياسة، وبين هذا الإصرار على تجنب قول الحقيقة.
لقد خسرنا فيلماً إذاً، خسرنا فيلماً كان بإمكانه بعبارة واحدة فقط أن ينجو، أن يصبح فيلمنا، مهما حمل من أخطاء، لا أن يصبح الفيلم المشغول بالتمويه والإنكار، وبالتالي التزوير. «السباحتان» ليس فيلمنا. إنه، عندما لا يسميّ الأشياء بأسمائها، مساهمة أخرى جديدة في بؤس العالم. على ما يقول مفكّر.
ندى داوود
ليس عصياً على التصديق لو قيل لنا إن أحداً ما، حتى لو كان شاباً، سقط في حفرة صرف صحي.. ومات. ففي شرقنا المنكوب نعرف ميتات عجيبة لا تحصى، هناك من فرمته فرامة سيارة النفايات، ومن فرمته شرطة الأخلاق بسبب حجاب فالت، ومن نُشر بالمنشار، من سقط في بئر، من ألقي حياً في حفرة، أو بإطلاق النار عليه فيما يقفز في حفرة «مطمّش» العينين، وفي البحر، وفي السجون، وفي المساجد أثناء الصلاة والوقوف بين يدي الله.
في سوريا خصوصاً لم يعد أي نوع من الموت غريباً، نعرف، حتى قبل الثورة والحرب، أن حفر الصرف الصحي تملأ الشوارع والأمكنة المظلمة، من دون أي تحذير أو إنارة ليلية، ولا بدّ أن كل سوري اليوم يستعيد حادثة ما، من هذا النوع، وقعت أمام ناظريه.
ما لا يمكن تصديقه الفشل الشامل، حتى الأهلي، بإنقاذ الشابة السورية الثلاثينية ندى داوود، التي سقطت منذ أيام في حفرة صرف صحي مفتوحة منذ ثلاثة أشهر أمام عيون الجميع. بحسب فيديوهات عديدة، من بينها شهادات لعائلتها، زلّت قدم البنت، مع أمها، حوالى الساعة الثامنة مساء، أُنقذت الأم على الفور، لكن الصبية (مهندسة في الخامسة والعشرين من عمرها) بقيت هناك ساعات، مع محاولات ضئيلة وبائسة لإخراجها.
غداً سنعود كلٌّ إلى مقعده، نترحم ونحزن ونحذّر بناتنا لتجنب حفر الصرف الصحي، في انتظار فاجعة جديدة.
الحفرة في بلدة مأهولة في اللاذقية، المدينة الساحلية السورية، تماماً لصق أوتستراد الثورة، وعلى ما يبدو فإن قبالتها سكان، وقد شهد أحدهم بأنه قبل الحدث بقليل حذّر سيارة من السقوط، كما حذّر أربعة أو خمسة أشخاص. (هنا بالإمكان الافتراض أن الرجل يائس حتماً من إمكانية استجابة الجهات المعنية لمطالب إغلاق الحفرة، فيما لو اتصل واستنجد قبل الحادثة، وقد يكون استنجد بالفعل). الكلام الأهم في كل الشهادات المصورة كان لشقيق الشابة، الذي تحدث بوضوح وأسى عن «مسخرة» تجمهر الناس الذين بدل أن يساعدوا في الإنقاذ راحوا يوثّقون المشهد بكاميرات الموبايل. اشتكى الشاب المفجوع أيضاً من أن أحداً لم يسعفه بحبل يساعد في الإنقاذ. تصوّر! مئات السيارات العابرة للأوتوستراد، وعشرات المتجمهرين، وسكان البيوت المقابلة، ولم يتمكنوا من إسعافها إلا بعد ثلاث ساعات، عندما جاءت سيارة إسعاف واهنة، حملتها إلى مركز غير مجهز، وبحسب أخيها فقد كان قلبها ما زال ينبض عندما وصلت، لو أن هناك أجهزة طبية تليق.
ستتفجّع البلاد برمتها على الموت المحزن والمأساوي، سيقال إن البلاد برمتها حفرة صرف صحي هائلة، سيغضب يوتيوبر معروف، ويبث فيديو غاضباً يقول إنه الفيديو الأخير، يصف الدولة بـ «جمهورية الجرادين».
سيعلق فنانون، وتتناقل الفضائيات تعليقاتهم، وسيتجرؤون هذه المرة على المطالبة بمحاسبة المسؤولين، وصولاً إلى رؤساء البلديات، الحكومة بدورها ستقيل بعض مسؤولي الصرف الصحي من مناصبهم.
وغداً؟ سنعود، كلٌّ إلى مقعده، نترحم ونحزن ونحذّر بناتنا لتجنب حفر الصرف الصحي، في انتظار فاجعة جديدة.
جمهورية المنتحرين
تلمح خبراً عن الرئيس التركي أردوغان يقنع مواطناً بالكفّ عن محاولة الانتحار على أحد جسور إسطنبول أثناء عبوره لتدشين سفينة حربية، تتذكر أنك شاهدت ذلك من قبل. وفي الصور أردوغان «يقنع» المواطن التركي المخفور من قبل حراسه الأشداء الكثر، هو البائس المذعور ذو الهيئة الرثة. هل كان بإمكانه ألّا يعدل عن قراره بالموت، هل كان له خيار ألا يقتنع!
إن كان أردوغان مغرماً بصورة المخلّص، المنقذ، فلربما عليه أن يلعب لعبة غيرها، ليس أمراً طيباً أن يقود المرء جمهورية المنتحرين.
تقول لنفسك ربما كان المشهد من نوع تلك الخاطرة النفسية الشهيرة المسماة «ديجا فو- أو رأيت ذلك من قبل»، فتسرع إلى غوغل لتجد أنها بالفعل ليست المرة الأولى التي يصادف فيها أردوغان مواطناً قرر الانتحار ويتمكّن بإقناعه أيضاً بالعودة إلى الحياة. إلى جانب أخبار أخرى تتناول انتحار أحد حراسه الشخصيين، وحوادث انتحار أخرى في البلاد.
الانتحار يحدث في كل مكان، وربما كل يوم، لكن أن يصادف رئيسٌ منتحرين لمرتين، ويتمكن من المرور في اللحظة المناسبة فهذه ليست سوى خراريف. ثم في أي لحظة بالضبط، وفي أي إيماءة استطاع الرئيس التركي أن يرى رغبة المنتحر بالانتحار، هل كان المنتحرون جادين فعلاً بالذهاب إلى العالم الآخر!
إن كان أردوغان، في هذه التمثيلية الإعلامية، مغرماً بصورة المخلّص، المنقذ، خصوصاً في لحظات الموت الأخيرة، فلربما عليه أن يلعب لعبة غيرها، لأن هذه ستفضي إلى معنى آخر، فليس أمراً طيباً أن يقود الرجل جمهورية المنتحرين.