في ذكرى رحيله..سماح إدريس: المقاطعة والخيار الثالث في الانتفاضات العربية
علاء اللامي*
بجهود الراحل سماح إدريس ومَن معه، وخصوصا خلال سنوات نشاطه الحافلة الأخيرة، تحوّلت مقاطعة الكيان الصهيوني من نشاط سلمي نخبوي ومناسباتي يقوم به بعض الخيّرين المنحازين إلى الحق الفلسطيني في أوقات فراغهم، إلى سلاح سلمي مؤثر يُؤرّق العدو ويكبّده خسائر فادحة في لبنان وخارجه. إن هذه الخسائر – حتى في حجمها الحالي – هي ما دفع حليفة الكيان وحاميته الأولى، الولايات المتحدة، لسنِّ قوانين تحظر هذا السلاح في عدد من الولايات وتعاقب على استعماله والدعوة إليه.
في هذا السياق، ذكر تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2019، أن “27 ولاية أميركية تبنت قوانين أو سياسات تعاقب الشركات أو المنظمات أو الأفراد الذين يشاركون في مقاطعة إسرائيل أو يطالبون بذلك”، بل أنهم تمادوا في سلوكهم القمعي لدرجة أنهم استهدفوا بقوانينهم العقابية حتى “الشركات التي ترفض القيام بأعمال تجارية في المستوطنات الإسرائيلية، وبعض الولايات التي لا تنطبق قوانينها بشكل صريح على المستوطنات، عاقبت أيضا الشركات التي قطعت علاقاتها بالمستوطنات”.
إنَّ هذا التحول في مسار وطبيعة عمل منظمات المقاطعة العربية والعالمية، لم يتم بسهولة وبين عشية وضحاها، بل من خلال عمل دؤوب وصبور وجهود كثيفة ومضنية بذلها ناشطون وناشطات من اتجاهات سياسية وفكرية شتى، يغلب على بعضها الطابع الديموقراطي واليساري، ويشارك في التخطيط لها والمساهمة في تطبيقاتها آخرون لا يحسبون على اتجاه فكري أو سياسي معين، بل يتحركون بدفع وتحريض من الضمير والوجدان والانحياز الفطري للحق ضد الباطل، وللجمال ضد القبح، وللنور ضد الظلام، وكان لسماح إدريس دور كبير وتأسيسي فعال على المستوى اللبناني والعربي.
لم يقتصر دور الراحل على النشاط العملي الدؤوب والملاحقة اليومية الدقيقة للنشاطات “التطبيعية” والمتعاملة مع دولة العدو، وتفعيل سلاح المقاطعة ضدها، بل شمل أيضا الجانب التنظيري والتعريفي لعمل المقاطعة، وتعريف “التطبيع” ذاته، ففي هذا الصدد كان الراحل قد نشر العديد من الكتابات، وألقى العديد من المحاضرات والمداخلات. على سبيل المثال لا الحصر، كان قد ألقى مداخلة حول “التطبيع الثقافي” تناول فيها تعريف التطبيع عموما ومخاطره والقوانين والمعايير والذرائع والمسؤولية المتعلقة به، فقال مُعرفاً إياه “هو السعيُ إلى ترويض عقولنا على تقبّل الفكرة الآتية: لا إمكانيّةَ لعيشنا إلّا بقبول القامع وشروطِه، وهذا التقبّل ناجمٌ عن قناعتنا بأنّ القامع أقوى منّا الآن، وربّما إلى الأبد؛ أو هو ناجمٌ عن جهلِنا بلحظاتِ قوةٍ وفَخارٍ وانتصارٍ في تاريخنا القديم أو الحديث”.
وقد انحاز سماح خلال النشاط المقاوم للتطبيع والمؤيد لمقاطعة دولة العدو للموقف التقدمي الأممي الإنساني الرافض لأي توجهات أو نزعات عنصرية أو طائفية. فقد شدّد أنّ “معركتَنا مع “إسرائيل” وداعميها تشمل القيمَ الأخلاقيّةَ والإنسانيّة. ولهذا فحملتُنا لا تواجه العنصريّةَ والطائفيّةَ – الصهيونية – بعنصريّةٍ وطائفيّةٍ مضادّتيْن”، وهو بذلك يرفض وبشكل حازم أي تحريض طائفي أو عنصري ضد العدو أو جمهوره رغم معرفته بأن هذا العدو عنصري حتى النخاع، ومذهبي وطائفي في تفكيره وممارسته، ولكن سماح يتمسك بقيمه الأخلاقية والإنسانية التقدمية، ويرفض معادة اليهود لأنهم يهود بل هو يعاديهم عميق العداء ويحرض ضد دولتهم المسخ لأنهم غزاة ومحتلون اغتصبوا وطنا وشرّدوا نصف شعبه إلى مخيّمات اللجوء ومارسوا اضطهادا وعدوانا غاشما على النصف الآخر الذي بقي متمسكا بأرض وطنه فلسطين.
أعتقد أن الوفاء لذكرى وروح رفيقنا الراحل سماح إدريس، يوجب على محبيه والسائرين على دربه مواصلة ما بدأ به وشارك فيه وبذل من أجهله جهودا نبيلة ومشرفة.
وسيكون ضروريا ومفيدا وباعثا على الأمل والوفاء، التفكير جديا بتقديم مقترحات عملية وأفكار بناءة وقابلة للتطوير والتنفيذ؛ من قبيل المقترح الذي قدم في مؤتمر مناهض للتطبيع التربوي عقد في بيروت في الثامن من كانون الأول من العام الماضي، ومفاده “ تشكيل إطار جامع وتنسيقي، والتواصل مع كل الجمعيات المناهضة للتطبيع”، أو حتى التفكير والتخطيط لعقد مؤتمرات إقليمية وعلى المستوى العربي والعالمي للتطوير والتنسيق بين جمعيات ومنظمات المقاطعة ومناهضة التطبيع.
إن انحياز سماح للمبادئ الإنسانية كأسس نشاطه السياسي هي أيضا ما دفعه الى تبنّي خيار ثالث بخصوص موقف الرفيق الراحل من الانتفاضات الشعبية المليونية العارمة [HS1] ضد أنظمة الاستبداد والتوريث والفساد التي شهدتها بعض الدول العربية مطلع العقد الثاني من هذا القرن، في ما سُمّي “الربيع العربي”. فيمكن التنويه بالخط والخيار الذي تبناه سماح إدريس، وراح يبشر به ويدافع عنه. وقد دعا سماح إلى هذا الخيار وفصلَّه في مقالات عدّة، اخترتُ اثنتين منها لأهميتهما التوثيقية.
الانتفاضة السورية: في إدانة القمع ونقض الحتمية التاريخية
عند اندلاع الانتفاضة السورية، خطّ سماح مقالة جريئة ومبدئية في تناولها لهذا الحدث واستشراف آفاقه. بعنوان ” ليس بالممانعة وحدها تحيا سوريا”. في هذه المقالة، يبدأ يُدين سماح القمع السلطوي للتظاهرات السلمية فيكتب في جريدة الأخبار (عدد ١٦ أيّار ٢٠١١) ما يلي: “ما يجري في سوريا من اعتقال وكبت وقتل وتعذيب لا يُمْكن تبريرُه ولا السكوتُ عنه، أيّاً كانت الذرائع. معللا هذا الموقف بالقول بعدم إمكانية “التسليم بأنّ البديل من النظام الحاليّ سيكون (بالضرورة) فوضى مطلقةً، أو نظاماً سلفيّاً، أو تطبيعاً مع العدوّ الإسرائيليّ. التسليمُ بهذا الأمر هو من قبيل الحتميّة التاريخيّة اليسراويّة المقلوبة”. قد يقول البعض إنَّ الأحداث اللاحقة في سوريا أثبتت خطأ هذا الرأي. وهذا قول خارج السياق تماما. فقد كتب الراحل ما كتب، والتظاهرات في سوريا في بداياتها، وكانت سلمية تماما ولم تنجر بعد إلى العسكرة. وهو قد حذّر في مقالته هذه من أنه “كلّما ازداد الكبتُ السلطويّ، اتّسع نفوذُ الجامع والطريقة والزاوية. إنّ خيرَ حليف للسلفيّة والأصوليّة، ويا لَلْمفارقة، إنما هو فشلُ السلطة في إرساء دولة لكلّ مواطنيها، أيْ فشلُها في ترسيخ العدالة والديموقراطيّة!”
ويُضيف قائلا: “هذا عن السلفيّة في صيغتها السلميّة. أما في صيغتها القتاليّة، فهي أيضاً تتعزّز وتزداد شراسةً كلّما ازداد عنفُ السلطة الحاكمة أينما كانت، في الجزائر أو مصر أو اليمن أو غيرها. لم يكن الحلُّ الأمنيُّ نافعاً مع الأصوليّة الجهاديّة على المدى الطويل.” ولهذا، فإنّ “الحلّ” الأمنيّ مع السلفيّة القتاليّة، إنْ وُجدتْ أصلاً في سوريا، وبالحجم المعطى لها في الإعلام الرسميّ، لن يُخْمِدَها، بل سيزيدُها استعاراً. غير أنّ هذا لا يَمْنعنا من السؤال: من أين نَبَتَ السلفيّون في سوريا فجأةً، وبهذه الأعداد، وبهذه الشراسة، على ما لا يكفُّ الإعلامُ الرسميُّ السوريّ عن الترداد؟”.
لقد أثبتت الأحداث الجسام اللاحقة، وبعد سنوات من التدمير الذاتي والتدخل الأجنبي الصريح إلى جانب الطرفين في المواجهة السورية، دقّة وصواب مقاربة سماح. فقد أصاب سوريا الحبيبة ما أصابها من هجرة وتهجير نصف سكانها وتدمير وخراب شامل دون أن تقترب من خلاصها الحقيقي بعد.
الخيار الثالث
مع استفحال الانقسامات حول ماهية الانتفاضات ومآلاتها، جهد سماح في مواجهة الفكر التسطيحي الذي لا يكشف عن التناقضات والتعقيدات للتطورات التي حدثت ويؤدي الى اصطفافات حادة. فكتب مقالة بهذا الصدد بعنوان “الخيار الثالث”، تكلّم فيها بصراحة ودقّة بين مَن يؤيدون هذه الانتفاضات الشعبية وما آلت إليه دون تحفّظات وبين من يناوئونها ويعادونها بسبب بعض وتداعياتها اللاحقة فيسقطون في حمأة الدفاع عن أنظمة الاستبداد ومعاداة الحراك الشعبي السلمي.
في مقالته الثانية “الخيار الثالث” – دعا سماح إلى تصويب التسميات المتداولة على شكل بديهيّات كالاستبداد والديموقراطية. “فالاستبدادُ العربيّ،” على حدّ قوله، “ليس مستقلًا تمامًا رغم ادّعائه العكس، بل يتغذّى من داعمٍ خارجيّ، وقد يغدو تابعًا له في بعض اللحظات الحرجة. لذا، فإنّ تهمة الارتباط بالخارج لا تنطبق على “المتعاونين” مع الغرب الإمبرياليّ وحدهم، بل قد تنطبق على الاستبداد “الوطنيّ” أيضًا. كما أنّ المرتبطين بالغرب الإمبرياليّ ليسوا، بالضرورة أو بالبديهة، ديمقراطيين مناقضين للاستبداد، إلّا إذا اعتبرنا حكّامَ العراق ما بعد “التحرير” سنة 2003 أو كرزاي الأفغانيّ نماذجَ للديمقراطيّة.”
وبحسب سماح، إن الدعوة الى مواجهة سياسة الفريقين لا تعني رفض مطلق لأي مقولات نظريّة أو سرديّات تحرّرية أيّ من الفريقين. فمناداة الاستبداد بتحرير فلسطين والمقاومة والوحدة العربيّة والاشتراكيّة لا يعني أنها من خصائص الاستبداد حصرا. كذلك على المقلب الآخر،
مؤكدا في “ثانيا”، على ضرورة “أن نؤكّد أنّ الوقوف ضدّ سياسة القطبيْن المذكوريْن لا يعني، بالضرورة، شجبَ بعضِ مقولاتهما النظريّة. فإذا نادى الاستبدادُ المحليّ بسرديّاتٍ تحريريّةٍ عربيّةٍ كبرى، “بالمقاومة وتحريرِ فلسطين والاشتراكيّةِ والوحدةِ العربيّة، فذلك لا يعني أنّ هذه السرديّات ــ في حدّ ذاتها ــ سرديّاتٌ استبداديّةٌ، ولا حياةَ لها خارج الاستبداد. وعلى المقلب الآخر، “فإنّه إذا نادت القوى المتحالفةُ مع الغرب الإمبرياليّ بالديمقراطيّة وحقوقِ الإنسان مثلًا، فذلك لا يعني أنّ الديمقراطيّة وحقوقَ الإنسان ــــ في حدّ ذاتهما ــــ ذريعتان إمبرياليّتان لاستعمارنا!”
إنّ النبرة التعميمية التي شهدناها في ما كتب في تلك السنوات بأقلام مختلفة وعديدة تختفي هنا جزئيا لمصلحة ولادة نثر تقدمي مبدئي لا يغادر التفاصيل والجزئيات حتى وهو يؤسس ويصقل مبادئه العامة ومرتكزاته السياسية النظرية للبديل التقدمي الثوري الذي يسعى لتأصيله وتجذيره على أرض الواقع كان سماح يُدرك أن جهده الفردي يبقى محدودا لذلك اقترح تحويل هذه الأفكار إلى قوّة مادية جماهيرية، عن طريق ما سمّاه “ورش فكرية”، منبهاً بنبرة تحذيرية إلى أنّ “هذه الأفكار العامّة تحتاج، بالطبع، إلى بلورةٍ شاملةٍ وتفصيليّةٍ معًا، وهو ما لن يتأتّى إلّا في إطار ورَشٍ فكريّةٍ عميقة. ولا نعني بالورَش هنا اجتماعاتٍ مغلقةً، داخل قاعاتٍ مغلقةٍ، تنحصرُ في “نُخَبٍ” عربيّةٍ انفصل جزءٌ كبيرٌ منها عن حركة الناس وهمومِ الناس، واكتفى باستظهارِ ما كتبه أو قرأه منذ أجيال؛ في حين اكتفى جزءٌ آخرُ منها بالتنظير المملِّ لليأس من الوضع العربيّ و”العقلِ العربيّ”. كما أنّنا لا نعني بها، حصرًا، اجتماعاتِ “الناشطين” الصاخبين كيفما كانوا. فجزءٌ مِن هؤلاء يَفتخر بكرهه للثقافة والمثقفين والسياسةِ والسياسيين، متوهّمًا تحقيقَ ثورةٍ بلا ثقافة ولا برامجَ، متباهيًا بتقديس “الشعب” و”العفويّة”؛ وجزءٌ آخرُ من الناشطين أدمن المصطلحاتِ والأساليبَ الأنجزيّة “المنظمات غير الحكوميّة”، فقدّم أولويّةَ التحرير الاجتماعيّ والجندريّ على التحرير الوطنيّ والقوميّ، أو تجنّبَ كلَّ تصريح بتأييد المقاومة المسلّحة ضدّ المحتلّ والغازي”.
يخلص سماح في ختام مقالته هذه إلى الخلاصة التعريفية التي يرها لهذه الورش بالقول “الورَش التي نعنيها هنا هي حركةٌ واسعةٌ من العاملين الفعليّين (لا “المؤمنين” المنظّرين) على بناء مشروعٍ عربيٍّ ثوريٍّ يحمل الخطوطَ العامّةَ أعلاه: فيكون مناهضًا شجاعًا للصهيونيّة والاستعمار والاستبداد معًا، مناضلًا من أجل الحقوق الفرديّة والجمعيّة على حدّ سواء، مستقلًّا عن كلّ إملاءٍ أو تمويلٍ رسميّ نظاميّ أو خارجيّ”.
ومعلوم – للأسف – أن هذه الفكرة المهمّة التي طرحها سماح لم تحقّق الكثير على الصعيد العملي لأسباب كثيرة. شتى هي الأسباب ذاتها [HS2] التي جعلت مآلات الحراك الشعبي المليوني في الانتفاضات العربية يتخذ مسارا غير الذي تمناه وعمل من أجله التقدميون والديموقراطيون المستقلون النقديون، رغم شرعية منطلقاته ونبل أهدافه.
إنّ تناول الراحل سماح إدريس لظاهرة الانتفاضات العربية يختلف جذريا عن تلك المقاربات التي لا تفصل بين بدايات ومنطلقات هذه الانتفاضات المشروعة إنسانيا والمآلات والمصائر التي آلت إليها في عدد من الساحات وانتهت بهيمنة اليمين الليبرالي أو الديني أو إلى العسكرة وحروب التدمير الذاتي المرعبة. وقد لا نجافي المنطق والواقع حين نقول إن قصور وعجز القوى التي تصف نفسها بالتقدمية البديلة عن القيام بدورها كان أحد الأسباب المهمة في تكريس هذه المآلات القاتمة الحزينة. ويكفي سماح إدريس فخرا أنه قام بدوره، دور المثقف الجريء والنقدي والمشتبك، فحذّر ونبَّهَ ووضع يده على بعض العلل – وما أكثرها – واقترح لها بعض العلاج قبل غيره. وبهذا سيذكره التاريخ ويبقى في ضمير الناس وذاكرتهم الجمعية!
*كاتب من العراق
**الخيار الثالث
***ليس بالممانعة وحدها تحيا سوريا
https://al-akhbar.com/Opinion/88412