أهداء.. إلى الحورية التي احسست بوجودي وما زالت تبتسم رغم الألم..
طيف أمي لا يفارقني.. كانت امي كباقي الأمهات تحمل طاقة من الحنين والحب يكفي للعالم كله.. اما صبرها فلا حدود له.. وكانت لها القدرة لكي تحول أقسى المحن والويلات الى حالة سهلة يمكن التعامل معها وتجاوزها بسهولة ويسر.. بحكم قناعتها.. رغم بساطتها.. بأن البشر يسيرون نحو عالم أفضل وان المستقبل الذي يليق بالناس سيصنعه الخيرون..
هكذا نشأت في أحضان عائلة تقيم وزناً للعدالة الاجتماعية.. فأبيها كان من الميسورين.. ممن وزعوا القمح والشعير على المحتاجين في زمن القحط.. كما كانت تروي لنا.. لكن قناعاتها ترسخت بعد اقترانها بأبي.. ذلك المعلم الثائر.. الذي كرس حياته لخلق عالم أفضل وسعى وكافح في عدة مجالات.. بدأت بالتعليم وانتهت بالسياسة والكتابة للأطفال.. في هدى راية ماركس والقيم الإنسانية الراقية..
كانت علاقة أبي بأمي مقرونة بهذا الحب المختلط بالكفاح واليقين الراسخ.. بأن الظلم لن يدوم.. ومنهم وهي بالذات.. من اورثنا وعلمنا الثبات على الموقف.. والاختيار السليم.. لذلك نشأنا ونحن لا ندري في ذلك الزمن.. في أجواء علاقات صداقة ومعرفة مع ابسط الناس من الكادحين.. ممن كانوا حولنا.. وكانت هذه البيئة الأساس في تكويننا.. انا وبقية اخوتي واخواتي..
فقط ما كان يميزنا عنهم حبنا للتعليم وميلنا للقراءة.. لأن ابي كان قد حول غرفة الضيوف الى ما يشبه المكتبة الصغيرة.. فيها العشرات من قصص الأطفال واليافعين بالإضافة الى كتبه الفلسفية والاجتماعية..
اما انا فكنت استفيد من جلسات ابي مع ضيوفه واصدقاءه من المعلمين والمثقفين.. واتابع أحاديثهم التي تبدأ بالسياسة وتنتهي بالأدب والمسرح والفلسفة.. هكذا سار الأمر معنا لغاية منتصف السبعينات.. حينها بدأت اول المؤشرات على تحولات ترافقت مع العمر.. حينما بلغت الثامنة عشر من عمري.. وشهدت أولى إرهاصات السياسة ومشاكل التعامل مع أجهزة القمع..
انتبهت أمي لهذا التحول في حياتي.. كانت تتقفى اخباري وتتابع خطواتي خارج الدار.. وبدأت تحفزني لاختيار فتاة من حولنا.. واقترحت اسماً من بين الكثير من الفتيات في ذلك الزمن.. لكنها لم تتمكن من اقناعي بذلك الاختيار..
مع الأيام ازداد ضغطها علي.. أخذت تلح وتشجعني لكي أقدم على هذه الخطوة.. لكنها لم تتمكن من ارضاخي لطلبها.. كنت في عالم آخر اشعر بالاختناق فيه.. واتحسس مخاطره من خلال مجسات يومية تؤكد لي بان زلزالاً سياسياً وشيكاُ قادم ليس ببعيد في حساباتي..
ومع ذلك كنت امزح معها وأقول لها..
إذا قررت أنْ تخطبي لي.. ماذا تقولين لأهل العروسة التي تختارينها؟ لديّ ابن فارع الطول.. أشقر اللون بعيون زرقاء وشعر ذهبي..
كانت ترد كأي أمْ في حساباتها لخصال أبنائها وتلفني بيديها من عنقي: ولك اكو أجمل منك في هذه الدنيا.. ليشْ ما اعرف كم بنت تدور حولك؟ ويتواصل الحديث بيننا.. هكذا تكرر الحال عدة مرات لغاية حدوث العاصفة السياسية في منتصف عام 1978 ومغادرتي للبيت فجر الـ 15 عشر من تشرين الأول.. أوصتني في لحظات الوداع بأن احافظ على حياتي.. قلت لها لا تقلقي علي.. سأعود لك لكي تخطبي لي الفتاة التي تقبل بوضعي كمطارد سياسي.. ومن ثم بدء الاختفاء ومشوار الكفاح المسلح وحياة الأنصار..
حينها كنت التقي بأمي.. بين الحين والآخر.. في لقاءات سرية محسوبة العواقب اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية.. وبعد حين.. بعد وفاة أبي.. تم ترحيلها ونفيها هي الأخرى مع الكثير من الامهات.. واجتمعنا بها انا واخوتي الأربعة في شعاب كارة في كوخ صغير في وادي مراني..
وحدث بعدها ما لا يمكن وصفه.. غيبت أمي.. التي وعدتها بالحفاظ على حياتي.. في جرائم الأنفال 1988.. رحلت هي في لجة تلك الجرائم وبقيت انا (حياً ميتاً).. ما زلت ابحث عن رفاتها في المقابر الجماعية.. أحس بقرب الوصول اليها.. طيفها ما زال يحيط بي.. استمع الى سعدون جابر وهو ينشد لوفاء الأم.. واذوب مع لحن الاغنية واتمسك بالطيف.. طيف امي.. احتاج لها ابحث عن روحها وأهيم كالمجنون في فضاء الكون الشاسع.. واستدعيها في هذه اللحظات من الزمن لتشاركني فرحة أعياد السنة الجديدة..
وبالأمس.. ليلة الأمس وقفت.. بعد ان غادرني اعز أصدقائي.. قبل منتصف الليل.. امام الصورة المعلقة على الجدار وحدي.. احسست بطيف أمي من حولي.. بجانبي حورية بحر اتكأ على متنها مؤشراً نحو الصورة بعد كل هذا الزمن لأقول لها..
هيا يا امي انهضي وتجهزي.. اخطبي لي عروسة البحر.. هاي امامك.. ولا أدرى بعدها كيف سقطت مغشياً على الأرض.. كنت اصرخ كي تسمعني.. وحينما نهضت في الصباح.. وجدت نفسي مطوقاً بذراعي حورية بحر كطفل صغير في أحضان امه..
ـــــــــــــــــــــــــ
17/12/2022