أقلمة السَّرد برؤية سارد عربيّ
ما من أمة لا تطمح أن تدلو بدلوها في ركب الحضارة البشرية والإسهام في ميادينها المعرفية والإبداعية، إلا إذا كانت أمة تخون نفسها، ولا نعدم خونة في كل أمة، ولا خونة شعب في كل الشعوب، لكن الأمم وشعوبها لا يمكن أن تكون خائنة لنفسها. وإذا ما أردنا أن تكون لنا مساهمة وإضافة حقيقتان في ركب الحضارة والمعرفة والإبداع عالمياً، راهناً وماضياً، فلن يكفي طموحنا إلى ذلك وتوقنا إلى تحقيقه كافياً. فأي طموح لا يقوم على أسس قويمة ومعطيات راسخة، لن يقود إلا إلى الوهم وبالتالي النكوص والشعور بالخيبة.
نحن لا ندعي أنّ لنا موروثاً في ارتياد الفضاء قوامه عباس بن فرناس، ولا نزعم أننا وضعنا البواكير للإلكترونيات ولا كان هناك باع في تراثنا في اكتشاف الذرة؛ ولكننا نستطيع أن نقول إن لنا أكثر من اجتراح وانجاز في الميادين الإنسانية الأخرى، بل والعلوم البحتة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب كان مهاداً أساسياً لقيام الحضارة العربية وعلومها الباهرة.
ولسنا متطفلين إذا ما قلنا إن إبداعنا الأدبي في موروثنا الزاخر كان منطلقاً وأصلاً، ارتكزت على ركائزه لبنات الإبداع الغربي الأول فنحن قبل أي تعريف «أمة بيان». وما انطلقت مكامن طاقاتنا ولا أبدعت ملكات أذهاننا وانبنت حضارتنا وسادت إلا بهذا البيان. وإذا ما ركزنا بحثنا ونقبنا للتدليل على ما تقدم في الموروث السردي العربي؛ فسنجده الفاعل الأول في صيرورة السرد الأدبي في بواكيره الأساس. لا بمعنى التأثر والتأثير الذي ظل أسير دراسات الأدب المقارن، بل بمعنى بناء الكينونة ونهوض هياكلها. وهذا كان شغلي الشاغل منذ سنوات عدة وأنا أبحث في سردنة التاريخ وأرخنة السرد التي تمخض عنها كتابي «السرد القابض على التاريخ» الصادر عام 2018، لكن ذلك لم يلبِ كل ما تغلغل في ذهني وتوقد في وجداني حول أهمية موروثنا السردي وفعله المباشر وغير المباشر في صياغة السرد الأوروبي.
وعلى الرغم من انصرافي إلى موضوعات أخرى، وصدور كتب لي فيها تبحثُ في تلك الموضوعات، فإن من دواعيها أن قربتني من صياغة مشروع طموح لأقلمة السرد العربي تبنَّى تقديمه مشكوراً مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة قطر. والتمستُ من القائمين عليه أن يدعوا خيرة المعنيين في النظرية السردية، واقترحتُ باحثين كبيرين من حراس التنظير السردي هما الدكتور سعيد يقطين والدكتور إبراهيم السعافين. وكانا كريمين في الاستجابة والمناقشة الجدية المثرية، ولن أنسى جهود الباحثين الآخرين الذين لم يألوا جهدا للقيام بالمهمة على أحسن وجه.
إني أدرك تمام الإدراك أن الأمر ليس بالهين ونحن نغوص في رحاب التراث ومسالكه الواضحة والممحوة، ونستلّ منه البراهين والدلائل على صحة أطروحتنا وأن نقنع بها الآخر الغربي، خاصة ونحن نريد أن نبدد بعض قناعته المجحفة في حق إرثنا وأن نشاركه في حيازاته المتفردة لكل الريادات.
إن مهمة الناقد العربي صعبة إن لم نقل عسيرة، فعليه التنقيب والتدقيق والتحقيق، وأن يفهم مناهج الآخر كي يغوص إلى جزئياتها وحيثياتها ويسبر أغوار النصوص الرائدة وتأثيراتها اللاحقة باحتشاد معرفي وقدرات استقرائية تقود إلى أدلة دامغة. أنا متيقنة من كل ذلك وأنا أتطلع بإعجاب لما طرحه الروائي المتميز واسيني الأعرج في مقالته (تحولات السردية العربية وسؤال الرواية) المنشورة في صحيفة «القدس العربي» بتاريخ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 وفيها طرح أفكارا قيمة واستنتاجات باهرة. واساني واسيني وأتى من الآخر فأعلن من دون تردد استنتاجات وتحصيلات نقدية تتعلق بتجنيس الرواية ومنشئية اجناسيتها وانفتاحية مساحاتها الفنية وقابليتها على التنقل والتحول الروائي، وأشار إلى الذاكرة المبتورة والتهجين وعلاقة ذلك بالتاريخ الاستعماري.
فعلى الناقد كما أسلفت أن يطيل الوقوف عند كل عينة يريد فحصها، ويدعم النظر في كل استنتاج يقرر طرحه في بحثه، وأن يشفع ذلك بالإحاطة المعرفية الوافية والدقيقة. أما سارد كبير كواسيني الأعرج وبتجربته الإبداعية الطويلة التي حازها عبر منجزات شاخصة للعيان، فانه لا يحتاج سوى أن يقرر وأن قراراته تستند إلى معين تجربته الثرة التي فيها البراهين وعليها الأسانيد. ومما أكده وقرره وبوثوق تام عابرية جنس الرواية، فهي ــ كما أبان ــ ذات قالب يرفض «الانغلاق والانفتاح على العالم في أدق تفاصيله.. فالرواية من أكثر الأجناس انفتاحا، الأمر الذي أعطاها الريادة وقوة مقاومة فناء الأجناس. منذ البداية فتحت مساحاتها لكل مجالات النشاط الفني. لا ثابت في الرواية باستثناء مكونات الجنس الجوهرية». إنه عين ما ذهبتُ إليه في أكثر من مناسبة ثم شكّل محور كتابي «نحو نظرية عابرة للأجناس».
وحلّقت مقالة واسيني بجناحين قويين: الأول حمل تأكيده استناد الرواية العربية على إرث سردي ضارب في القدم وله «نظمه السردية العظيمة التي أبدعتها العبقرية العربية» و«أن لها أن تجد مسالكها وطرقها ومساراتها لاستعادة نظام سردي عربي عظيم ركز على التخييل الحر الذي شكّل له مساحة واسعة للإبداعية في ميزاتها العربية والإنسانية». وهذا بمثابة الدعامة لدعوتي إلى أقلمة السرد العربي والذي فصَّلت القول فيه، وكان محور الجزء الثالث من كتابي «علم السرد ما بعد الكلاسيكي: السرد غير الواقعي، أقلمة المرويات التراثية العربية».
وساق واسيني الأعرج أمثلة للتدليل على هذه الفرضية، وكان أولها رواية «دون كيخوته» التي وقفتُ عندها طويلا في كتابي آنف الذكر، مظهرة جذورها العربية وهضمها «نظم السرد التي أبدعتها العبقرية العربية» وتجد هذه الفكرة سندها القوي في مقالة الكاتب المتميز، إذ يقول عن تأثر الآخر بهذا الموروث: «كان الأمر في لحظة من لحظات التاريخ. وعلى الرغم من غلبته العسكرية والثقافية، لم يجد ضررا من التأثر بالثقافة العربية أو ثقافة الشرق الكبير الذي شيده لاحقا قطعة بقطعة وفق أهوائه وحاجاته الثقافية، فأنتج نصوصا خلاسية غرفت من معين الثقافات العالمية، ومنها العربية… والإسلامية التي بترناها نحن من ذاكرتنا السردية بفعل قسري مسبق».
الجناح الثاني الذي حلّقتْ به تلك المقالة القيّمة حمل أمراً غاية في الأهمية مفاده «أن للرواية العربية ذاكرة سردية حية تستحق الاهتمام النقدي والبحث الجاد. فقد استطاعت ليس فقط أن تستدرج الجنس الغربي في مكوناته المعروفة ولكن أيضا في أن تطوره وتوطنه»، ويدعم ذلك بما حصل ويحصل في الرواية في مختلف البلدان العربية استنادا إلى خصوصيات تجاربها المحلية الكبيرة في المغرب العربي والسودان والشام ومصر والعراق والخليج. ونضيف إلى ذلك أن تجربة واسيني الأعرج أحد الأدلة الساطعة على ما تقدم، وبشكل خاص مدونته الفريدة «مي ليالي إيزيس كوبيا» عن الكاتبة الراحلة مي زيادة، وهو ما سأقف عنده بما يستحقه في مناسبة قادمة.
ولا يخفى أن روائيي أمريكا اللاتينية لم يفتحوا مصاريع بوابات السرد العالمي إلا ببعث موروثهم السردي الخاص والمنغمس بخصوصيات مكوناتهم التاريخية والفنية. ذاك المورورث استقى من إرثنا السردي العربي الكثير عبر اللغة القشتالية التي سادت كل بلدان أمريكا اللاتينية لحقبة طويلة من الزمن. أقول بكل حماسة: شكراً أستاذ واسيني على هذه المقالة المنفستو الرائعة.
*كاتبة من العراق