الهُويات القلقة في الوطن الأمّ
الهويات التي لا تجد تعبيرها الوطني والقومي تصبح قلقة، مرتبكة، في حالة استنفار دائم وانتظارات شديدة الحيرة والخطورة، رافضة كل ما يأتيها من السلطة المركزية التي يفترض أن تكون أكثر ذكاء في التعامل مع الحساسيات الثقافية، وتميل نحو الرؤى الضيقة وعرضة لمختلف الانزلاقات، وقد تصمت مؤقتاً محتضنة غليانها، أو تحتج سلمياً للتذكير بوجودها، أو بعنف عندما لا يتمّ الإصغاء لحاجاتها الثقافية والتاريخية. فالساكت عن الحق شيطان أخرس؛ أي أنه شريك في الجريمة الموصوفة، بل جزء منها ومن نظامها، فهو يرى الوقائع ويلمسها يومياً لكنه يمرّ أمامها وكأنها لا تعنيه أبداً، يرفع مناخيره ويمضي نحو شؤونه اليومية. يكاد يكون الأمر طبيعياً. فالمرور يومياً في شارع معين، يرى باستمرار في أحد زواياه المظلمة امرأة بلباس ممزق، فقيرة، معدمة، قذفت بها الحياة نحو ذلك المكان البائس والبارد، ترضع ابنتها بنهد ذابل وحليب قليل، وأمامها سجاد صغير يضع عليه المارة بعض نقودهم، ويمضون إلى شؤونهم. في المرة الأولى يقوم بما يقوم به أي متعاطف مع الفقراء. يضع قطعته النقدية ويمضي نحو شؤونه، لكنه مع الزمن تموت دهشة الإحساس وتكون تلك المرأة قد تحولت إلى جزء من الديكور العام، فتصبح غير مرئية بالنسبة له، وصوت ابنها الذي يبكي من شدة الجوع أمراً عادياً، مثل زامور السيارات، أو صراخ الباعة في الأسواق. العادة قاتلة، تجعل الأشياء تمر عادية أمام أعيننا، وهي ليست كذلك. الصمت على الظلم شراكة فيه.
إنّ الذي لا يطالب بثقافته وحقه اللغوي والحضاري والإنساني يسقط حتماً في شرك الهويات المغلقة؛ هويات هي للوهم أقرب منها لجوهر الحقيقة.
فهل في المطالب الهوياتية داخل الوطن الأمة L’Etat Nation، ما يضر فعلاً بوحدة الكيان وطني؟ كيان لو استوهب معضلات العصر وقرأها بشكل جيد يكون قد خطا خطوة نحو توليد انتماء يجد فيه الاختلاف والتعبير الحر مكانين هما الطبيعيان في سياق وطني أشمل؟ المنع يولد الكراهية الهوياتية التي تتحول بسرعة نحو شكلها الانفصالي الأكثر تطرفاً.
الأكثر أسفاً أنه كان يمكن لهذا التصور البسيط أن يمنع الكثير من البلدان من حفر القبور الهوياتية بأيديهم، فتمزق الوطن الواحد إلى وطنيات تسلمتها قوى أخرى في سياق الحروب الاستراتيجية وسخرتها ووجهتها وفق مصالحها. التجارب العربية الأخيرة (سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، لبنان، المغرب والجزائر بشكل أقل في الوقت الراهن)، الخطابات الوطنياتية التي اعتمدت خطاباً إقصائياً لكل المكونات التاريخية للأمة، وحساساً من كل مطلب لغوي أو حضاري، انتهك الحق الأدنى لمجموعة بشرية في حقها التعبيري. إنه خطاب يصادر التاريخ، ويتلاعب به تحت غطاء «المحافظة» على الوحدة المفترضة لكيان كل الاختلافات والميزات والهويات الصغيرة، مما يجعل أضراره أكثر من فوائده، بل فتاكة بالنسيج الوطني، على العكس مما يظنه سدنة التاريخ وخطاب الحاجة الآنية وليس الاستراتيجي، الذي لم ير النور في العالم العربي. فمنح الفرصة للآخر (الغرب الاستعماري) الحق في الانقضاض على البدان التي أنهكتها الأنظمة الدكتاتورية التي ترفض أن ترى في المجتمعات العربية تحديداً، غير صورتها المتآكلة. المشكلة الكبرى أنه لا حوصلة تاريخية لكل الممارسات التي أدت إلى أحداث دموية أعقبتها تطرفات هوياتية غير مسبوقة.
أيمكننا أن نتحدث عن تاريخ فردي أو جماعي دون إثارة ما هو قادم من بعيد؟ ودون الغوص في التاريخ إلى الأعماق؟ تاريخ شكلنا على النحو الذي نحن عليه اليوم؟ إنّ ذهنية البتر التاريخي لجزء مهم من الخصوصية الثقافية الوطنية، قد جعلت الجزائر وطناً دون رحم، ودون تاريخ. كأن التاريخ يبدأ من اللحظة التي سطرها القيمون على البلاد (54-62) وهي اللحظة التي تقاطعت كل الاختلافات والهويات المتصارعة منذ الأربعينيات، فكونت لحمة واحدة (العربي، الشاوي، القبائلي، الترقي، الميزابي، الوهراني، العاصمي، القسنطيني وغيرهم، المسلم، المسيحي، اليهودي…) خرجت فيها الجزائر منتصرة وموحدة إلى حد كبير، لكن الحسابات الضيقة واللاتاريخية جعلت كل واحد يتخندق في موقع لتقاسم الغنيمة، أو خوفاً على وجوده. الحلول الإقصائية السهلة هي التي تؤدي حتماً إلى هذه الكسورات الهوياتية.
لقد تواتر في الكتب المدرسية – المكان الطبيعي لرسم الهوية/ الهويات في تعدديتها الوطنية، هذا الغياب المفجع، وهذا البياض الذي يحرم البلاد من جزء من تاريخي الحقيقي، فجعلا من وطن لا شيء، أو جعلا منه «ملكية خاصة» تسير وفقاً لمشيئة من أسسوا لهذا التصور. لقد تم «نهب» جزء من تاريخ البلاد. ويمكننا أن نفترض بحق، لو نشأت الهويات المكونة للبلاد بشكل من مناخ العدالة الاجتماعية واستراتيجية تكوين بلاد تعترف بتعدديتها وثقافاتها التي تجمعها أرض وتاريخ.
أيمكننا أن نعتز بأرض دون أن نعرفها، أو نقص حكاياتها؟ ولكن هل يمكننا أن نتوق إلى انتماء ما ونحن نهزأ بالملامح الأولية المكوّنة له؟ أيمكننا أن نذهب أبعد من الخطابات السياسوية المسطّحة والحاقدة على الآخر الذي فينا ومنّا، والمحتقرة لهويته الثقافية والتاريخية التي هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الوطن الواسع والأرض التي نشأ فيها، ونحن لم نحقق بعد مآتمنا الوطنية المختلفة، ولم نتصالح مع تاريخ الأرض التي نعيش عليها وفيها؟ تاريخ صعب، ومعيش ارتعاشة خوف، أو جرح لا برء منه بسهولة دون العودة إلى تصحيح المسارات والأخطاء والحماقات المرتكبة؟ البلاد المغاربية التي تطرح فيها مسألة الهويات بحدة، قارة، ولكونها كذلك تحتاج إلى دقة وحساسية وحذر في التعامل. كيف نتناول تاريخ وطن مترامي الأطراف، شديد الثّراء والاتساع والغنى مثل الجزائر، عندما يبتر «سادة التفكير» أو المتحكمين في هذا التاريخ جزءاً مهماً من جوهره التكويني؟ كاتب ياسين يذكرنا بالحماقات التي تسببت في جراحات كثيرة تراكمت حتى أصبحت شديدة الخطورة «إنّ تعاسة بلاد ثرية مثل الجزائر تكمن في انعدام وجود دينامو محرك DYNAMO-MOTEUR يعيد لهذه البلاد حجمها الإنساني والعالمي». نحتاج إلى كثير من العمى لكي نعتبر رأي كاتب ياسين «ضرباً من التفرقة» و»الحقد على الأمة». كلام كاتب عالمي عظيم، قضى حياته يحارب طواحين الهواء مثله مثل النبيل دون كيخوتي دي لامانشا، الذي لم يستسلم للاعتباطية واللامعنى حتى في الأوقات الصعبة. إنّ الوطن ليس قطعة أرض؛ أو امتداداً لا متناهياً من السواحل والرمال، وإنّما هو أعمق من هذا بكثير، إنّه قصيدة شعر لا يمكن فك رموزها دون بذل الجهد الإنساني، وقبضة يد ممتلئة بالكرم والنّور. إنّه نظرة متلألئة قادمة من بعيد، ولون من الصلصال الأمغر الممزوج بأراض أخرى بلون الدّم. والمكتشفون للرموز هم وحدهم الذين يمكنهم بلوغ معناه العميق. إنّ الوطن هو ما هو، وليس ما نريد نحن أن نفعل به بواسطة إيديولوجية مُفْقِرة. إنّه حقيقة توليدية شديدة التعقيد. إنّه نتاج تاريخ يعرف كيف يمزج بين جميع التناقضات ويجعلها في خدمة الجماعة أو الفرد.
الوطن جسد يعيش، يتنفس، ينبض بالحياة، وأحياناً ينتفض بقوة ليعدل عقارب الساعة، ويرفض أن يفرض عليه قانون العصور الغابرة. إنّه أيضاً محاولة من أجل الاستماع لذلك الغضب العنيف ولرعشة الحب العارم، القادمين من بعيد لتذكيرنا؛ نحن من فقد الذاكرة بأن التاريخ من صنع الرجال؛ الرجال بالمعنى الأكثر ثراء، والأكثر نبلاً، والأكثر تناقضاً أيضاً.