الطغمة الحاكمة.
عبد الرزاق دحنون .
طُغمة: اسم
الجمع: طُغَمٌ، طُغْمات
طُغْمَةٌ مِنَ النَّاسِ: الجماعة منهم
طغمة: تشير إلى حكومة عسكرية في المصطلح السياسي
هذا المقال بعد تحريره من صحيفة عربية تصدر في لندن بقيت منه ألف كلمة يحكي عن دولة الطغمة التي لا تُصلح ولا تتغير ولا تترك الناس في شأنهم بل تُلاحقهم في بلدهم على كل صغيرة وكبيرة. حيث لا تزال العديد من الدول العربية رهينة الطغم الحاكمة التي تتكتل فيما بينها في مواجهة أي انتفاضة شعبية وتحبط كل محاولات التغيير، فهي تتقاسم النفوذ والسلطة، وبالتالي كل الأرباح والعائدات المالية للدول، وتعمل في نظام محاصصة يضمن لها الاستمرار وصد كل محاولات التغيير.
هناك (شبح)احتجاجات جديد في لبنان يقال إنه يمكن أن يدفع إلى انهيار شامل. وهناك احتجاجات مستمرة منذ أكثر من شهرين في إيران. وقبلهما اندلعت احتجاجات دامت لنحو عام كامل أو أكثر في العراق والجزائر. ولكن لا شيء تغيّر. لا النظام السياسي في لبنان انهار، حتى ولو انهارت دولته، ولا النظام الديني في إيران سقط، ولا تغير شيء في العراق، وعادت الطغمة التي حكمت الجزائر لتهنأ بنفسها.
ويجب ألا نغفل عن تفسير السبب الذي جعل كل هذه الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية تفشل في تحقيق ما تريد، عن السمات المختلفة لكل منها، ولكن هناك خيطاً فضياً واحداً يجمع بينها، وهو أن الدولة، ككيان مؤسسي، تقع في قبضة طغمة تجتمع على رؤية مشتركة فيما بينها، حتى وإن ظهرت بين بعض أطرافها اختلافات. وهذه الاختلافات عادة ما تكون محدودة، أو شكلية، أو تميل إلى المناورة، إلا أنها لا تضحي بالأسس التي تُبقي القبضةَ محكمة على الدولة والمجتمع.
الفساد في العراق، ليس كمثل الفساد في لبنان. الأول حزبي داخل كل طائفة. والثاني حزبي يريد القول إنه هو الطائفة. كما أن الفساد في إيران ليس كمثل الفساد في الجزائر. يملك الولي الفقيه كل شيء في إيران ويتحكم بصندوق أموال واستثمارات يحتوي على نحو 100 مليار دولار. ويستطيع أن ينفق منه ما يشاء على من يشاء، من دون أن يخضع للمساءلة، لأن صندوقه هو “صندوق إلهي”.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي ورث نظاماً كان يوزع الثروات على مقربيه وأقاربه، قد لا يملك قرشاً واحداً أبعد من راتبه، إلا أن فساده هو فساد رؤية سياسية لا فساد مال، رؤية مصممة على أن تبقى الطغمة هي القوة الحاكمة، شاء من شاء وأبى من أبى. ولئن وجد نفسه يحكم بأقل من عشرين في المئة من إرادة الناخبين، فالحقيقة هي أن هذه العشرين في المئة هي الامتداد الاجتماعي للطغمة.
وهذا الامتداد موجود في سورية وإيران كما أنه موجود في العراق ولبنان ومصر والسودان، وهو الذي يجعل الاحتجاج الاجتماعي قابلاً للكسر. على الأقل، لأن هناك من هو مستعد لأن يقول إنه هو المجتمع، وإن كل الآخرين الـ80 في المئة هم عملاء أو مأجورون أو مرتكبو أعمال شغب.
مجتمع الطغمة هذا كان هو الذي أبقى نظام الرئيس بشار الأسد في سورية قائماً على رجلين محطمتين، وهو الذي كان يحارب “المجتمع” الآخر، ويطرده من مكانته ومن مكانه أيضا، حتى تحولت المدن السورية إلى خرائب تسكنها الأشباح.
هذا الخطر هو ما يهدد الانتفاضة الراهنة في إيران. ليس لأن مجتمع الطغمة مسلح، وقادر على أن يمارس كل ما يشاء من أعمال الترويع والانتهاكات فحسب، بل لأنه قادر أيضا على أن يعتبر نفسه هو “المجتمع” وكل الباقي هوام.
انتفاضة السابع عشر من أكتوبر في العام 2019 لم تسقط شيئا في النظام القائم في لبنان. استقالة حكومة سعد الحريري نفسها كانت عملاً اختيارياً، أراد منه رئيس الحكومة أن يظهر استعداده للخروج من دائرة الطغمة. ولكن الطغمة هي التي انتصرت عليه وعلى المنتفضين في آن معاً. ومن الواضح أن “الطغمة” في لبنان ليست حزب الله وحلفاءه فقط. إنها كل الذين يعتبرون النظام الطائفي، القائم على “صيغة العام 1943” هو الشكل النهائي للكيان اللبناني.
الطغمة الحاكمة يسمح لها “غياب المساءلة” بالنفاذ من ثقوب كل الأزمات الاقتصادية التي قد تعانيها البلاد. ولئن أصابه بعض العوز، فإنه يظل أفضل حالاً من غيره، ما يوفر له مبرراً للبقاء سنداً متيناً لحاكميه. كما أنه يتغذى برؤية أيديولوجية مماثلة تسمح له بالنظر إلى مواطني بلاده الآخرين على أنهم يتحركون بخيوط مؤامرة خارجية.
علي خامنئي لم يوافق على حل شرطة الأخلاق ولا على إجراء تعديل على القانون المتعلق بفرض الحجاب. ولكنه سمح بهما ضمنياً لكي يثبت “للإصلاحيين” من أركان الطغمة، بأن تقديم التنازلات لن يؤدي إلى توقف الاحتجاجات. وهذا ما حصل بالفعل. فتم، على إثر ذلك، تنفيذ أولى أحكام الإعدام ضد بعض معتقلي الانتفاضة، وذلك لأجل القول إنه لا مزيد من التنازلات.
وسوف يتكفل “مجتمع الولي الفقيه”، بمن فيه الباسيج والحرس الثوري وأتباعهم الآخرون، بسحق الانتفاضة، ولو تدريجياً. وأي تنازلات قد تحدث بعد عودة الهدوء، فإنها سوف تقدم كـ”مكرمة” من القائد، وتحت ظل سلطته الوارف. وهذا ما فعله بشار الأسد وعبد المجيد تبون بالإصلاحات المحدودة التي تم تبنيها على الورق وتعطليها في الواقع الفعلي. لأن “المكرمات” مثلما تُعطى، فإنها يمكن أن تتقلص أو تُسحب.
كما أن مجتمع حزب الله في جنوب لبنان وبعض أطراف بيروت، دولة قائمة بذاتها أصلاً. والفوضى لن تنشب أظفارها في المناطق اللبنانية الأخرى، لأن هناك طغماً تستطيع أن تضبط الانفلات وتحد من تداعياته.
ودولة الطغمة لا تتنازل ولا تتغير ولا تقبل الإصلاح، لأن أي شيء من ذلك، يمس تصوراتها لطبيعة الكيان الذي تمثله الدولة. فالدولة في الجزائر، على سبيل المثال، هي ملكية خاصة لحزب جبهة التحرير، سياسيا واجتماعيا. والدولة في سورية هي ملكية خاصة لعائلة الرئيس بشار الأسد. كما أن الدولة في إيران هي ملكية خاصة للولي الفقيه، ومن يرثه. والدولة في العراق هي دولة محاصصة. أما الدولة في لبنان، فإنها ملكية خاصة للعائلات التقليدية التي تتصدر الواجهات الطائفية، ما يجعل الإصلاحات مستحيلة ومطالب التغيير يائسة ولا تحقق شيئا.
حتى الصراع المسلح لا يحقق الغاية. وبشار الأسد قدم أوضح الأجوبة الممكنة على هذا الخيار. وهو جواب وازى، بنتائجه، إلقاء أربع قنابل نووية على البلاد. كل واحدة منها بحجم قنبلة هيروشيما. وبقي حاكماً! مزيج من الأسباب المختلفة هو الذي أوقع هذه البلدان في براثن طغمات أشبه بأخطبوطات ألقت القبض بأذرع كثيرة على كيان الدولة والمجتمع.
هل من أمل؟
يا صاح
إما أن ينهار “مجتمع الطغمة” نتيجة تناقضاته الداخلية وهي كبيرة وكثيرة. وإما أن يتوقف مجتمع الـ80 في المئة عن العمل في إضراب شامل، غير محدود، حتى ينهار كل شيء، ليعاد إنتاج الدولة من جديد، وفقا لاشتراطات لا تسمح بتكوّن طغمة.