إنه الحب!
شاهدت ليلاً على شاشة التلفزيون الفرنسي (القناة 5) برنامجاً وثائقياً عن قصة غرام الأديب الشهير ألبير كامو مع ماريا كاساريس الممثلة المسرحية.
وهذا أمر عادي يحدث كل يوم، ما ليس عادياً هو أن البير كامو الفائز بجائزة نوبل للأدب عام 1957 كتب لحبيبته 900 رسالة حب!
وكلها تسيل حباً استقبلته كاساريس بحب مماثل كما القارئ الفرنسي. 900 رسالة حب! عندنا (تقوم القيامة) حين يكتب مبدع رسائل حب إلى كاتبة كما حدث لي يوم نشرت رسائل غسان كنفاني لي. في الغرب رسائل الحب محبوبة، ويحرصون على نشرها، أما عندنا في دنيا (الهص الهص) فنشر رسائل حب من مبدع جريمة لا تغتفر.
(واسألوني أنا). ميتران، رئيس جمهورية فرنسا الأسبق، كتب رسائل حب جميلة إلى حبيبته، وبعد وفاته قامت بنشرها في كتاب، واحتفت الصحافة الفرنسية بالرسائل الأدبية الجميلة بدلاً من التهجم على حبيبة ميتران المتزوج والأب.
معاداة رسائل الحب
يكتب ألبير كامو إلى حبيبته ماريا كاساريس عبارة «أركض مقتفياً أثر صورتك وذكراها».
في الغرب يحبون رسائل الحب ويحتفون بها، وسبق لي أن كتبت عن أحد كتب (دار نشر لاتيس) الفرنسية فيها مختارات من رسائل الحب، وقد كتبت يومئذ عن الكتاب في مجلة الحوادث (المتوقفة عن الصدور) وكنت أعمل فيها. أما عندنا فنشر رسائل الحب جريمة أدبية، هذا على الرغم من جمالها أدبياً، ثم إن الذين كتبوها أو كتبت لهم سيموتون ولن تبقى إلا الأبجدية الجميلة في بعض رسائل الحب.
إنه تشابه الأسماء
أنتقل إلى موضوع آخر..
تشابه الأسماء عندنا إغراء بالسرقة الأدبية، أما في بعض البلدان الأخرى فهو أمر لا يخلو من الطرافة. فقد قرأت عن تجمع لأصحاب الاسم والكنية نفسيهما، وذلك في طوكيو في لقاء طريف، وإنهم بذلك حطموا رقماً قياسياً. البعض عندنا حطموا الرقم القياسي في قلة الأمانة الأدبية، وبينهم من يستغل تشابه الأسماء على الكمبيوتر لكي يسرقوا بعضاً من المترجمين من أصحاب الإبداع الأصلي.
إسرائيل تستبيح حتى الأبجدية
من الأرض إلى الأدب، تستبيح إسرائيل السرقة. وهكذا قامت دار نشر إسرائيلية بترجمة رواية «مشاة لا يعبرون الطريق» للأستاذ عاطف أبو سيف من العربية إلى العبرية. وسبق لي أن تعرضت لأمر مماثل؛ فقد كتب لي شاب فلسطيني عربي في الأرض المحتلة يذكر فيها أن دور النشر العبرية تترجم بعض كتبي الشعرية بالذات، وتربح المال ببيعها.. وطلب مني أن أوقع له على عقد أبيع له فيه ترجمة كتبي إلى العبرية إلى جانب إعادة نشرها بالعربية، واستشرت زوجي وقال لي: على أي حال، لن تربحي قرشاً من هذه الترجمات… فدعي شاباً عربياً يستفيد مالياً من ذلك بدلاً من دار نشر إسرائيلية. ووقعت العقد مع الشاب الفلسطيني العربي، ولم أطلب منه قرشاً. وتذكرت قول غسان كنفاني عن وعد بلفور «أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق». ووجدت أي دار نشر عربية في الأرض المحتلة تستحق أن تربح من إيراد نشر كتبي من أي دار إسرائيلية.
إنه.. «الزهايمر»
حين كنت صبية صغيرة في دمشق قبل رحيلي إلى بيروت فجنيف فلندن فباريس، كنت أتمنى أن أصاب بمرض الزهايمر.
فقد كنت أتوهم أنه مرض فقدان الذاكرة لا أكثر. وكنت أتمنى أن أصاب بمرض الزهايمر لأفقد ذاكرتي وأرتاح منها، وأضرم نار النسيان فيها.
ثم اكتشفت فيما بعد حين لم أعد صبية صغيرة أن المرء مع مرض الزهايمر لا يفقد ذاكرته فقط، بل الكثير من عافيته. وحين زرت بيروت للمرة الأخيرة، علمت أن إحدى صديقاتي من قريبات زوجي أصيبت بهذا المرض، لكنني أحببت زيارتها في مرضها. وقالت لي ابنتها وهي تعرف صداقتي مع أمها: لا أنصحك بذلك لأنه سيحزنك.
قلت لها: الحزن صديقي، فدعينا نذهب لزيارة أمك.
لا تريد زيارة أمها
وذهبنا معاً لزيارة أمها. لكن مرض الزهايمر جعلها لا تعرف ابنتها ولا تعرفني وتنظر إلينا بعينين غائمتين، وتمشي بصعوبة، ولا تتكلم. وفهمت لماذا لا تريد ابنة صديقتي اصطحابي لزيارتها. فمرض الزهايمر ليس كما كنت أتوهم وأنا صغيرة؛ أن المرء يفقد ذاكرته فقط، بل يكاد يجهل بيته والمقعد الذي يجلس عليه عادة.
حين لا تعرف مريضة مصابة بالزهايمر ابنتها، فذلك يعني أنني كنت جاهلة حين تمنيت أن أصاب بالمرض إياه لأفقد ذاكرتي! لا نجاة لأحد من ذاكرته وذكرياته. ولذا، وعلى غير عادتي، اهتممت بمقال يتحدث عن عقار تجريبي واعد لمعالجة الزهايمر.
لكن في المقابل، هذا مرض يؤلم المحبين أكثر مما يؤلم صاحبه. فالمريض بالزهايمر لا يعرف ذلك.. وهو يتابع حياته بسلام، لا يعرف أحداً ولا يهمه ذلك.. والالم للذين أحبوه وألفوه ويتمنون الحوار معه عن ذكرياتهم المشتركة.. إنه الحب من طرف واحد!