لِم الاحتفال بالعام الجديد.
ما الذي يدفع الناس لتبادل التمنيات والتهاني في لحظة واحدة من منتصف ليلة محددة في العام وكأنهم منشدون في فرقة تعزف لهم لحنا جماعيا لا يُعزف في وقت آخر؟
لماذا: كل عام وأنتم بخير. ولنبدأ بسنة جديدة ملؤها الحب والوفاء والتسامح. سنة سعيدة وهانئة للجميع. تمنيات نتلقاها ونسمعها من ملايين الناس في أرجاء المعمورة في يوم محدد من العام. يتبادلها الكل ، جامعة ما بين التمنيات الفردية والجماعية سواء ضمن الأسرة أو الملتقيات العامة أو ، وهو الأكثر انتشارا هذه الأيام، مواقع التواصل الاجتماعي.
لننطلق نحو فضاء جديد. لتتحقق آمالنا المشتركة. لا تدع الخيبات الصغيرة تُنسيك بأنكَ لستَ شخصًا عاديًا. ستكون أقوى وأفضل حالا. هكذا تعدُنا الرسائل المتبادلة بداية العام الجديد بفحواها الإيجابي ومتعة المشاركة. «لا نستمتع بالمتعة ما لم نشاركها»، تُذّكرنا الكاتبة الإنكليزية فيرجينيا وولف التي كانت تعاني من الاكتئاب ورضخت أخيرا للمرض فوضعت حدا لحياتها، على الرغم من مقاومتها الإبداعية المتمثلة بالروايات والمؤلفات النقدية. فهل مشاركة التمنيات بالسعادة والهناء، ولو ليوم واحد، هو محاولة لإبعاد شبح القلق والكآبة الجماعية التي تحيط بنا ونحن نعيش في خضم دورة إخبارية على مدار الساعة، طيلة أيام العام، تهيمن عليها قصص العنف والحرب والكوارث الطبيعية والفساد؟ وما الذي يمنح التلويح مودعين لعام واستقبال عام آخر، في دقيقة محددة، خصوصيته، على الرغم من إدراكنا الواعي بأنه ليست هناك عصا سحرية ستحيل، في تلك اللحظة المحددة، ظلمة الليل إلى نهار مشرق يحتضن فيه الناس أنفسهم والآخرين؟ هل هو التشبث بتعويذة الأمل والحلم باحتفالات طالما مورست عبر التاريخ ولسنا ، أبناء العصر الحالي أبناءها؟
السعادة ليست فردية بل هي ظاهرة جماعية. وأن علاقاتنا بالآخرين ، قد تكون هي الأكثر أهمية. وهو مفهوم ينطبق على أسلافنا الذين عاشوا في الكهوف، والذين شكلوا هياكل اجتماعية لزيادة احتمالات بقائهم على قيد الحياة
في بابل، احتفل البابليون، قبل حوالي 4000 عام، بشرف وصول العام الجديد بظهور أول قمر في أواخر شهر آذار/ مارس احتفاء بلحظة شروق الشمس ترحيبا بمجيء النور بعد الظلام. أقاموا بهذه المناسبة مهرجانا دينيا كبيرا يسمى أكيتو (مشتقة من الكلمة السومرية للشعير ، الذي يُحصد في الربيع). تستمر احتفالاته كما هي الاحتفالات الحالية عدة أيام كما في بعض البلدان. إلا أن الرومان اختاروا تغيير ذلك فأصبح الأول من يناير/ كانون الثاني بداية العام ، لتكريم الشهر الذي يحمل الاسم نفسه: يانوس ، وهو إله البدايات الروماني ، الذي يسمح له وجهاه بالنظر إلى الماضي وإلى الأمام في المستقبل، تتويجا لتلك اللحظة المُحتفى بها حاليا. وللطقوس الرومانية يعود الكثير مما نشهده اليوم. فقد احتفل الرومان بتقديم التضحيات إلى يانوس ، وتبادل الهدايا مع بعضهم البعض ، وتزيين منازلهم بفروع الغار وحضور الحفلات الصاخبة. أما أوروبا العصور الوسطى ، فقد شهدت تغيرا جمع بين الاختيار البابلي والروماني حين استبدلت الكنيسة، مؤقتًا الأول من يناير باعتباره الأول من العام بأيام تحمل أهمية دينية مسيحية، مثل 25 ديسمبر/ كانون الأول (ذكرى ميلاد المسيح) و 25 آذار/ مارس (عيد البشارة) ؛ إلى أن أعاد البابا غريغوري الثالث عشر تأسيس يوم 1 يناير كيوم رأس السنة الجديدة في عام 1582 .
ولكن، كيف استطاعت طقوس ما قبل آلاف السنين التسلل إلى عصر مابعد الحداثة وما بعد الحقيقة وأوجه التواصل الاجتماعي المتسعة عبر التغريدات والواتس آب والانستغرام، لتصبح هذه المستجدات كلها أدوات للاحتفال وتبادل التهاني والسعادة بعام جديد عابر للقارات؟ وهل يمتد السؤال ليضم لم الاحتفال بالعام الجديد؟ لم السعادة؟ لم الضحك؟ الضحك ألذي أثار خوف الكنيسة في القرون الوسطى وجعل الإمام الحسن عند مروره بشاب يضحك إلى تقريعه قائلا: هل مررت على الصراط؟ قال: لا، قال: وهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رؤي هذا الشاب بعد ضاحكا.
بعيدا عن الحفر التاريخي الذي قد نحمله في دواخلنا، يخبرنا علماء النفس بأننا بحاجة ماسة لسماع أخبار جيدة، وتبادل التهاني والتمنيات بالصحة والسعادة هو نوع من مشاركة الأخبار المفرحة التي تؤثر بشكل إيجابي على الآخرين، وأننا نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لخلقها ونشرها. فمن خلال مشاركة إيجابية واحدة، يمكنك إضفاء البهجة أوالتفاؤل أو الراحة أو الامتنان على يوم شخص حتى لو لم تلتق به من قبل.
ولأن البداية في كل المشاريع المغموسة بالأحلام توحي بالتفاؤل، فإن ما نتمناه ونطمح اليه لأنفسنا والآخرين هو شحن للأحلام في أن تكون تلك الدقيقة الفاصلة بين ليلة وليلة، هي محطة النهاية والبداية، والانتقال من حال إلى آخر، على ايقاع أصوات تُردد العد التنازلي من العشرة إلى الصفر، وممارسة طقوس تنشد السعادة . السعادة التي أصبحت في عصر التواصل الاجتماعي، كما تُشير الدراسات، شديدة العدوى مثل الفيروسات والأمر ذاته ينطبق على المشاعر السلبية. فالكتابات ألتي تُستخدم فيها كلمات مثل «فرح ، وحب ، ورائع، وجميل» أو تبادل قطعة موسيقية أو أغنية مشحونة بالعواطف أو ذكريات « الزمن الجميل» تتم مشاركتها بنسبة 70 بالمئة أكثر من الكتابات ألتي تضم مفردات « قلق ، ومؤلم ، وحزين، وقبيح». ووجد علماء تتبعوا الاستجابات العاطفية لمستخدمي الفيسبوك في ألمانيا والولايات المتحدة أن قراءة المشاركات الإيجابية لأشخاص آخرين تثير السعادة في 64 بالمئة من الناس. كما أن مشاركة الأخبار الإيجابية لها مزايا مباشرة على كاتبها أو موزّعها. إذ يزيد إيصال التجربة الإيجابية التي يمر بها الشخص إلى آخر من تأثير التجربة الإيجابية نفسها لأنه سيعيشها ويستمتع بها من جديد. وإذا كان من المعروف أن الضحك مُعد، فقد اتضح، الآن، أن السعادة كذلك. وأظهرت دراسة نُشرت في المجلة الطبية البريطانية ، أن السعادة ليست فردية بل هي ظاهرة جماعية. وأن علاقاتنا بالآخرين ، قد تكون هي الأكثر أهمية. وهو مفهوم ينطبق على أسلافنا الذين عاشوا في الكهوف، والذين شكلوا هياكل اجتماعية لزيادة احتمالات بقائهم على قيد الحياة. فهل هذا هو السبب الذي يجعلنا نتبادل التهاني والتمنيات بالخير والسعادة كطوق نجاة، ولو لبضع ساعات، في بحر الحروب والمآسي المحيط بنا؟