مرافىء في ذاكرة ( يحيى السماوي 8 )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
ما بَرِحَ الآباءُ عَلَى مَرِ العُقود الماضية عَنْ الأمل – بفطرةٍ سليمةٍ – فِي رؤيةِ فلذات أكبادهم عَلَى عتبةِ المدارس، وهم يضعون أولى خُطواتِهم بدروبِ المعرفة فِي تلك الصباحات الشفافة الوادعة الَّتِي لا يخترق هدوءها – وَهي تستقطب منذ ساعاتها الأولى عشرات الأطفال – سوى أجواء البراءة الَّتِي تصدح فِي فضائِها – المزخرف بجمالِ شقاوة الاطفال – ضحكاتِ كثيرة مَا تَزالُ تتراقص طرباً فِي آذانِ الكثير مِنَا، بالإضافةِ إلى مَا يتداخل فِي جنباتِها مِنْ بكاءٍ لبعض القادمين حديثاً إلى عَالمِ التربية؛ جراء الخشية مِنْ الابتعادِ عَنْ وَالديهم المتأتي مِنْ ضعفِ مداركهم الَّتِي تجعلهم مِنْ دُونِ أدنى شك عاجـزين عَنْ قـراءةِ حيثياتِ الواقـع الجديد وَتفاصيله، وهو الأمر الَّذِي ألزمَ أغلب الأهالي الحرص عَلَى اصطحابِ اطفالهم إلى بنايةِ المدرسةِ فِي الأيامِ الأولى مِنْ بدايةِ الموسم الدراسي، فضلاً عَنْ اضطرارِ بعضهم الانتظار جلوساً بجوارِ سياج المدرسة للاطمئنانِ عَلَى أطفالهم، وَلا سبيل أمامهم حينئذ سوى الركون إلى الحديثِ مَعَ بعضِهم البعض أو الاختلاء إلى النفسِ بعيداً عَنْ الناسِ والضجيج أو مشاركةِ الكسبة الَّذين يفترشون الأرض لبيعِ الحلوى أو الباعة الجوّالين – الَّذين يجدون فِي واجهاتِ المدارس سوقاً رائجاً لما تحويه عرباتهم الخشبية مِنْ مأكولاتٍ مثل الباقلاء وَالحمص ( اللبلبي ) والفلافل وَغيرها – الحديث عَن همومِ الدنيا؛ لأجلِ قتل الفراغ حتىَ يحين موعد الشروع باصطحابِ أطفالهم إلى المنزلِ بشكلٍ آمنْ بعد خروجهم مِنْ المدرسةِ فِي نهايةِ الدوام.
مِثلُ غيره مِنْ الآباء، كان المرحوم عباس عبود – طيب الله ثراه – ينتظرُ بفارغِ الصبرِ أنْ تتكحلَ عيناه برؤيةِ ابنه يحيى وهو يدخل المدرسة؛ إذ أَنَّ تلكَ اللحظة التاريخية الَّتِي يَعدها ثمرة لجهدِه وَغنيمة لعرقِه وَجزاءً لتعَبِه وَشقائه، تشعره وَأسرته – مِنْ دُونِ أَدْنَى شك – أَنَّ وَلدهُ قد كبر واشتد عوده وبات قريباً مِنْ حصدِ ثمار تربيته. وَلِأَنَّ نفسَه توَّاقة للفرحِ بابنِه، فضلاً عَنْ طموحِه فِي فتحِ المجالِ أمامه للحصولِ عَلَى فرصته فِي التَعَلُّم وَاِكْتِساب المَعرِفة، إصطحبَ ابنه يحيى ذَاتَ صَبَاحٍ شَفِيفِ الضِّيَاءْ إلى سوقِ المدينةِ الَّذِي لَمْ يكن غريباً عَليه بحكم مهنته، وإشترى له بنطلوناً وَقميصاً وحذاءً جديداً، بعدَ أنْ تيقنَ مِنْ أَنَّ نبتةَ ابنه الناتئة فد كبرتْ، وأصبحتْ فسيلةً لها مِن العمرِ ستةِ أعوام، ثم ذهب معه إلى جارهم المصوّر الشَمسيّ، وَالَّذِي مَا يَزال السَمَاوي يشير إليه باسْمِ ” العَم إبراهيم العَزَاوي “، ليلتقطَ له صورتين فوريتين بالأسودِ والأبيض.
يا أنت يا قلبي أمثلك فــي الهوى
يشـكو مــــواجعَ غـُرْبَةٍ وفِـراقِ؟
أوَلسْتَ مَنْ صامَ الشبابَ مُكابــراً
عَن مـــــاءِ أعْنابٍ وخبزِ عِناقِ ؟
والمُـثـْمِلاتِ لــــــــذاذةً بِمَـبـاســمٍ
والمُـمْـطِـراتِ عذوبــــةً بـمآقي ؟
يا مَــــنْ أضَـعْـتَ طـفـولةً وفـتـوَّةً
ماذا سـتَخْسَـرُ لو أضَعْتَ الباقي ؟
هل فـي جِرارِ العُمْرِ غيرُ حُثالةٍ؟
أطبِقْ كتابَـكَ .. لاتَ وقتَ تلاقي!
مِنَ المُناسِبِ وَنحنُ نقلبَ بعض مَا أتيح لَنَا مِنْ صفحاتِ مَلَفِ طُفُولة السَمَاويّ أنْ نفتحَ كوة فِي موروثِنا الَّذِي لا يمكنهُ مغادرة الذاكرة التاريخية؛ وَلَعَلَّ التصويرَ الشمسي الَّذِي جاءت تسميته مِنْ طبيعةِ آلية عمله الَّتِي تعتمد فِي تأمينِ الإضاءةِ عَلَى ضوءِ الشمس مِنْ بَيْن أشهر تلك الموروثات الَّتِي تباينت الروايات وَتحقيقات الباحثين حَوْلَ زمَانِ وَمكان وَطرق دخولها إلى بلادِنا، إذ كانت مِن المهنِ الفنية الشعبية واسعة الانتشار، وَالَّتِي ظلت حية ومتألقة بجمالِها فِي مُدننِا إلى عهدٍ قريب قبل أنْ يتجاوزها العصر بظهورِ محال التصوير الفوتوغرافي، حيث كان استخدام التصويرَ الشمسي يومذاك مقتصراً عَلَى التصويرِ السريع جداً بالأسودِ والابيض؛ لأجلِ تغطيةِ متطلبات المعاملاتِ الرسميَّة واحتياجات الأنشطة المدرسية، وَهو الأمرُ الَّذِي جعل مِنْ وَاجهاتِ بعض البنايات الحكومية مستقراً لأصحابِ هذه المهنة، حيث تظهر الركيزة أو حمالة الكاميرا المكونة مِنْ ثلاثةِ أضلاعٍ خشبية قوية ينتصبُ فوقها بدن الكاميرا الخارجي الَّذِي يحوي فِي داخلِه صندوق الأفلام المحكم ضد الضوء وَحوض الحامض وَكاسيت الصور الَّذِي يوضع فيه الفلم، فضلاً عَنْ الكيسِ الأسود الَّذِي يحجب الضوء عَنْ الفلمِ مِن الفتحةِ الخلفية. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ الصورةَ الشمسيَّة كان يشارُ إليها فِي الماضي القريب باسْمِ ( عكس )، وَالمصورَ كان يسمى حينئذ بـ ( العكَّاس )؛ جراء ارتكاز تِقنية التصويرَ الشمسي عَلَى آليةِ عكسِ الصورةِ. إذ يجلسُ الشخصَ المراد تصويره عَلَى كرسيٍّ أُعد انتخاب مكانه بأناةٍ أمام قطعة قماش سوداء يجري تثبيتها عَلَى الجدار، حيث يقوم المصور الشمسي برفعِ غطاء العدسة لتلتقط الكاميرا الصورة، وَالَّتِي تظهر بشكلِها السالب – الفريم أو الجامعة – الَّتِي أعتاد لسان العامة عَلَى الإشارة إليها بلفظِ ( الجامة ) أو المسودة، وَالَّتِي غالباً مَا تحتاج إلى رتوشٍ باللونِ الأحمر عَلَى بعضِ مناطق الوجه؛ لأجلِ إبرازِ ملامح الصور، حيث يمكن الحصول عَلَى أربعةِ صورٍ مبللة بالماء خلال دقائق. وَمِنْ المعلومِ أنَّ كاميرا التصوير الشمسي البدائية الصنع والأداء، تأثرت باستمرارِ عجلةِ التطور فِي تقنيات الفوتوغراف والكاميرات الحديثة الَّتِي تحولت إلى عينٍ ثالثةٍ للمصورين مِنْ أجيالِ الشباب؛ إذ أصبحت فِي عالمِ اليوم – بفعلِ قدمها وَضيق أفقها الفني وَعدم قدرتها عَلَى التواصل – غير مؤهلة لِمواكبةِ التطور الكبير فِي تِقنياتِ التصوير المثيرة للدهشة، وَهو الأمر الَّذِي أدَّى إلى انتفاءِ الحاجة لها بعد أنْ غمرَها الزمن وَأفضى إلى استقرارِها فِي خزانةِ الموروث الشعبي.
بعد اتمام متطلبات التسجيل فِي المدرسة، صحبه والده – رحمه الله – ذات صباح قائظ فِي أحدِ أيام عام ١٩٥٥م إلى أحدِ حارات الصوبِ الكبير؛ لأجلِ الشروع بإكمالِ مقتضيات انتظامِه بالدراسةِ فِي مدرسةِ المأمون الإبتدائية للبنين، وَالَّتِي كانت تشغل آنذاك بناية قديمة تشبه إلى حدٍ بعيد وَبالاستناد إلى منظورٍ مقارناتي الثكنات العسكرية، عَلَى الرغم مِنْ أنَّ الأهاليَّ كانوا يشيرون إليها حينئذ باسْمِ ” المدرسة الثانية “؛ لأنَّها تُعَد بوصفِها المدرسة الثانية الَّتِي جرى افتتاحها فِي السَمَاوةِ بعد مدرسة ” الرشيد ” الَّتِي كان يُطلق عليها أهل السَمَاوة اسْمِ ” المدرسة الأولى “. وَلَمَا كانَ لكُلِّ فضاءٍ رواية، فَمِنْ المناسبِ أنْ نشيرَ إلى أنّ بنايةَ مدرسة المأمون تم إزالتها لاحقاً وأقيمت عَلَى أرضها مجموعة مِن الدكاكين، عَلَى خلفيةِ تشييد مدرسة حديثة فِي بدايةِ منطقة الحي الجمهوري، حيث كانت بناية واسعة مِنْ طابقين وَفيها قاعة كبيرة وَحديقة أمامية وَملعب كبير، غَيْرَ أَنَّ اتساعَ السَمَاوة وَالإقرار عَلَى اعتبارِها مركزاً لمحافظةِ المثنى، أفضى إلى تحويلِ هذه المدرسة إلى مديريةِ بلدية المحافظة، ثم إلى مديريةِ تربية المحافظة، وانتقلت المدرسة إلى بنايةٍ أخرى.
لا تـُسْـرفــي باللـــــومِ والعَــتـَبِ
فأنا ـ وإنْ جزتُ الشبابَ ـ صبي
قـلـبي بـهِ للحـبِ ألـفُ مـــــــدىً
رَحْـبٍ وِغابـــاتٌ من الـوَصَـبِ
إنْ أغـْضَبَتـْكِ صـبابـتي فـأنــــا
أطـْفَأتُ فـي نيـرانـــها غـَضَبي
قـــــــدْ أوْرَثـَتـْني عِـفـَّةً بـهـوىً
أمّـي .. وأوْرَثني الوفـــاءَ أبـي
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ يحيى حين دلفَ إلى المدرسةِ صحبة والده، تفاجأ بمديرِها المرحوم ” علي كاوي ” يرحّب بأبيِه ترحيباً جميلاً؛ جراء صداقته لأبيه، فضلاً عَنْ كونِه زميلاً له فِي المدرسةِ الإبتدائية بحسبِ ما أسره بِه أبوه وقتذاك. وَمَا أظننا نغالي فِي القولِ إنَّ شغفَ أبيه بالقراءةِ هو الَّذِي جَعلَه يستعجل فِي تسجيلِ ابنه البكر فِي المدرسة، وَلَعلَّنَا كذلك لَا نغالي إذا قُلنا إنَّ يحيى فِي طفولتِه قد أحبّ المدرسة لا شغفاً فِي التَعَلُّم؛ إنما لأَنَّ أصدقاءه مِنْ أبناءِ الجيران ” باسم ابراهيم العزاوي ” و ” جواد كاظم عزيز ” و ” شاكر داخل المدو ” و ” رشاد نافع الجضعان ” و ” فاضل حسن العزاوي ” و ” رزاق محسن العزاوي ” : قد سجّلهم آباؤهم فِي المدرسةِ بالفترةِ ذاتها.
لا رَيْبَ أَنَّ مدرسةَ المأمون الإبتدائية للبنين، كانت عتبة السَمَاوي يحيى الأولى فِي مسيرةِ منجزه الأدبي الإبداعيّ الَّذِي أغنى به المشهد الثقافي والأدبي، فعَلَى سبيلِ المثالِ لا الحصر يقول الناقد جمعة عبدالله إنَّ ” اسمَ السَماوي له صدى كبير بجرسِه الرنان، فِي عطائه الشعري والنثري، وَكل اطلالة ديوان أو مجموعة شعرية أو نثرية جديدة، تؤكد حضوره المتألق فِي جماليةِ الابداع الأصيل بما يملك مِنْ خزينٍ غزير مِن الخبرةِ والكفاءةِ فِي الخزينِ اللغويِّ والمعرفي، فِي رسمِ أسلوبيةٍ خاصة متميزة فِي عوالمِ الشعرِ والنثر، إنَّه يمتلك الصفة المميزة في اسلوبية الابداع بشكلٍ فذ وعملاق، وَإنَّه يطرقُ كل الاساليب وَالطرق المتجددة، فِي الصياغةِ وَالتركيب والبناء المعماري، هذه المواصفات الفذة، تؤهله أنْ يكون فِي قمةِ العطاءِ الشعري والنثري “. وَيضاف إلى ذلك مواقفه الوطنية والإنسانية الَّتِي انتهت به قسراً إلى المنافي فِي أقصى أصقاع الأرض، وهو الفتى السومريّ الحالم فِي الاستظلالِ بفيء نخلة أو النظر إلى جمال منظر شروق الشمس عَلَى مَرَابِعِ الصَّبَا. وَأكاد أجزم أَنَّ السَمَاويَّ تواق لتقبيلِ عتبة مدرسته البائسة، بَيْدَ أنَّها أصبحت حكايةٌ منسية مِن الماضي – مثلما هو حال آثارنا- بعد أنْ كانت بِيئَة معرفية لرسمِ المُسْتَقْبَل.
مسكينٌ وطني
منطفئُ الضحكةِ
مفجوعُ الإنسانْ
لو كان له مثلي
قدَمٌ وجوازٌ ولسانْ
لمضى يبحث في المعمورة
عن ملجأ أوطانْ!
بقلم الكاتب
لطيف عبد سالم