لماذا الصمت العربي على اقتحام المسجد الأقصى؟
لم تكن هي الزيارة الأولى التي يقوم بها إيتمار بن غفير لباحة المسجد الأقصى، فقد دنسها من قبل عندما كان محاميا لمن يريدون تغيير الوضع القائم داخل المسجد الأقصى. أما اليوم فهو يحمل صفة وزير الأمن الوطني، وهذا الموقع يجعله مسؤولا عن تنفيذ سياسة الحكومة، وإذا ما علمنا أن بن غفير ومن معه من الأحزاب الدينية اليمينية هم الذين سمحوا لنتنياهو بتشكل الحكومة الجديدة، فإنه بات قادرا على تنفيذ أفكاره التي نادى بها مرارا بشأن تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى.
لكن ما المقصود بالوضع القائم؟ المقصود به هو السماح لكل العالم بزيارة باحة المسجد الأقصى، لكن الصلاة فيه مقتصرة على المسلمين كونه مكان عبادتهم. وقد قبلت إسرائيل بهذا الوضع منذ أن احتلت القدس الشرقية عام 1967، وكان بإمكانها تغيير الوضع القائم آنذاك، لكنها أحجمت عن الفعل لعلمها بمكانته لدى المسلمين.. كما تعلم جيدا أن هذه الأرض مُحتلة وفق القانون الدولي، الذي لا يسمح بتغيير الأوضاع فيها، لكنها منذ ذلك اليوم انتهجت مسار التغيير التدريجي في قضم الأرض والحقوق. وهنا لا بد من القول إن زيارة بن غفير كان دافعها الوعد الانتخابي الذي أعطاه لجمهوره، بأن يكون صاحب قرار في الحكومة وليس وزيرا فحسب، وأن السيطرة الأمنية على كل فلسطين، وبضمنها الأماكن المقدسة للمسلمين ستكون بيده، وأنه لن يتنازل وسيظهر ذلك للعالم كله وليس للفلسطينيين فقط.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو، ما وجه المقارنة على صعيد الحال العربي بين الفعل الذي قام به شارون في عام 2000، وما قام به بن غفير في الأسبوع الماضي؟ في عام 2000 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون المكان نفسه، وأطلق التهديدات والوعود نفسها، لكن الرد العربي على الواقعة كان كبيرا. ففي 28 سبتمبر/ أيلول من ذلك العام انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقام المغرب بإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي، واتخذت عُمان وتونس خطوات تصب في هذا الاتجاه، وأعلن العراق أنه سيتولى إعالة عوائل شهداء الانتفاضة. وكان هنالك تضامن شعبي مع أهلنا في فلسطين عم الشارع العربي كله. لكننا اليوم لا نرى أي رد فعل عربي على زيارة بن غفير، لا من دول ما يسمى محور المقاومة، ولا من خارج هذا المحور، ولا حتى من الشارع العربي، بل حتى عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ران الصمت على الجميع في بلادنا العربية، وحالة الغياب هذه لها أسبابها، فقد حصل تغيير في التعاطي مع قضايانا العربية، وكذلك مع السياسات الإسرائيلية أيضا، لأسباب اقتصادية وسياسية، وتفاعل الأزمات المستمرة من دون حلول حقيقية. بالتالي وصل الكثير من الناس الى حالة فقدان الثقة بالنظام العربي، الذي لم يعد لديه سوى الإدانة، من دون تقديم أي شيء حقيقي يوازي التهديد الإسرائيلي. فالدول التي لديها اتفاقيات سلام وتطبيع، سواء كان علنيا أو سريا مع الكيان الصهيوني، لم تضع هذه الاتفاقيات على المحك، والذين يُنسّقون أمنيا مع هذا الكيان ومنهم السلطة الفلسطينية، لم نسمع منهم إعلانا بقطع التنسيق. وإذا ما علمنا أن صانع القرار الصهيوني يزن كل خطوة يقوم بها بميزان استقراره، وقياس ردة الفعل المقابلة، ومقدار الثمن الأمني الذي سيدفعه، فإنه يقينا سيشعر بحرية تامة في فعل كل شيء، بناء على الصمت العربي المطبق على كل ما يقوم به من أفعال وجرائم. وسيشكل هذا الصمت نقطة الوثوب الصهيوني إلى أمام، لمرحلة مقبلة وحلقة جديدة من التصعيد، قد تتجاوز مسألة اقتحام المسجد الأقصى الى خطوات إجرائية على الأرض الفلسطينية. وواهم من يظن أن الكيان الصهيوني يُعير أي اهتمام، أو يحسب أي حساب للمطبعين معه، حين يتخذ قراراته، فهو يرى أن الأمور في الواقع العربي قد تغيرت، وأن هنالك حجما جديدا للعلاقات الاقتصادية والأمنية مع النموذج الجديد من التطبيع، كما يعتقد أن هذه الدول العربية ليست على تماس مع القضية الفلسطينية، ولا حدود جغرافية لها مع فلسطين، بالتالي هي لديها رؤية مختلفة لموضوع الصراع العربي الإسرائيلي. صحيح أن هذه الدول قد تشعر بالحرج أمام شعوبها من الخطوات الإسرائيلية، لكنها لن تقوم بأي فعل مقابل، لأن التطبيع الذي قامت به اختياري وليس مفروضا عليها، ويقوم على أسس مختلفة تماما عن اتفاقيات السلام مع الأردن ومصر، فحجم الاستفادة المأمولة والمتوقعة لا تجعل هذه الدول قادرة على فرض رؤيتها على إسرائيل.
إن وصول أقصى اليمين للحكم، لأول مرة سيجعله يبرهن على وجوده في خطوات أخرى، ولا وزن لما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي من أنه ضد تغيير الوضع القائم في الأماكن المقدسة، وقد يراهن البعض في إسرائيل على إمكانية تخدير الفلسطينيين، لكن الفلسطيني حتى من هو داخل ما يسمى الخط الأخضر، أثبت في مناسبات عديدة، أنه لا يمكن أن يكون بمنأى عن أي صراع حول القدس. وقد بات هذا الموضوع جينيا وجيليا، ينتقل من جيل الى آخر. وأن ما لا يستوعبه الجانب الإسرائيلي، هو أن هناك جيلا فلسطينيا جديدا لديه أساليب جديدة في التصدي والتعامل مع إسرائيل، وأن رفض الولايات المتحدة للخطوة الاستفزازية من قبل بن غفير، ودعوة الصين والإمارات إلى عقد جلسة لمجلس الأمن، والتنديد من هذا الطرف أو ذاك، لم يعد الفلسطيني مضطرا لوضعها في الميزان، فلا شيء يضمن الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة، ولا أية جهة دولية قادرة على فعل يوقف هذه الانتهاكات، وستذهب كل هذه الإدانات، كما ذهبت كل القرارات السابقة لمجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة إلى المجهول، فكل تلك القرارات طالبت إسرائيل بعدم تغيير هوية القدس منذ احتلالها، بينما إسرائيل تعتبر القدس بشطريها هي العاصمة الأبدية لها. وهذا دليل على أن أفعال المجتمع الدولي مجرد كلمات، بينما أفعال الكيان الصهيوني هي إجراءات واضحة على الأرض. إن التثقيف الذي تمارسه دول التطبيع مع إسرائيل بالقول، دعونا لا نغلق القنوات الدبلوماسية مع حكومة الكيان الصهيوني، لأننا إذا أغلقنا الحوار مع حكومة نتنياهو، يمكن أن يدفعنا ذلك للتعامل غدا مع حكومة أكثر يمينية، وبالتالي تزداد الأوضاع سوءا في الأراضي الفلسطينية، إنما هو تبرير لا منطق يحكمه ولا يتقبله عقل، فمتى كان اليسار الإسرائيلي حملا وديعا؟ ألم يكن هنالك استيطان في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعرُض ومضايقات للوجود المسلم في القدس والمسجد الأقصى في عهد اليسار أيضا؟
عسى أن يكون هذا الحدث إشارة تنبيه واضحة للدول العربية الأخرى، التي تعد العدة لتوقيع اتفاقيات تطبيع مع هذا الكيان مستقبلا. فالذهاب إلى هذا الطريق لا يوجد له ما يبرره أمام الشعب العربي.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية