هل أصبح اليسار خارج الأفق المُستقبلي؟
يشهدُ العالمُ مفارقةً لافتةً للنظر، مقابل ظاهرة عولمة السوق وحركة السلع وسيادة مبادئ التيار الرأسمالي، تتصاعدُ التياراتُ اليمينية المعبرة عن الرغبة للانكفاء على الكيانات القومية، وهي تناهضُ موجات الهجرة، كأنها بذلك الموقف تريدُ حماية الصفاء العرقي، وتبثُ عقيدة التفوق القومي. وما يدعو إلى الاستغراب أكثر وسط هذا الحراك القائم بين الإرادات المُتضاربة. إن صوت الفكر اليساري قد توارى من المشهد العالمي، هنا يتبادرُ إلى الذهنِ سؤال، هل كان قدر اليسارِ معقوداً على تجربة الاتحاد السوفييتي وانتهى أجلهُ مع انهيار جدار برلين؟ وماذا عن التيارات اليسارية التي كانت تُمثلُ طيفاً واسعاً من المجتمع، وتحظى بجماهيرية كبيرة؟ يبدو أنها لم تكنْ إلا ارتداداً للموجة وتفاجأت بانتصار المعسكر الذي كان من المتوقع أن يسحقهُ ناموس الحتمية التاريخية.
والأزمة تتعمقُ أكثر مع إعلان الرموز اليسارية البارزة ولاءها للطرف الفائز في الحرب الباردة. وهذا الاختبار كشف الغطاء عن البؤس الفكري والهشاشة المبدئية. والتحجر الآيديولوجي. وبالطبع لا يصعبُ على من يستعيضُ بالجوهر قشوراً الانصراف من النقيض إلى النقيض، دون المرور بلحظة المُساءلة والتدبر العقلاني. وهذه النماذج من التفكير السطحي تؤكدُ أنَّ كل ما يتمُ ترويجه تحت طائلة وصفات في مطبخ المستقبل، ليس إلا خزعبلات لا تُطعم العقل سوى الوهم. ومن المعلوم أنَّ ما يصيبُ الفكرَ في المقتل هو التشبع باليقين بأنَّ هناك مرحلةً تاريخية معينة هي آخر ما يمكنُ للبشرية الوصول إليها، أو الإيمان بأنَّ الواقع ليس إلا عبارة عن مختبرٍ، وظيفته تتمثل في الإبانة عن صحة عقائد فلسفية والدعم لمصداقية مشيئة حاملي الألوية الخلاصية. وكان كانط محقاً في قوله، إنَّ فلسفة التاريخ لا يُمكنُ أن تُكتبَ إلا من شخص لديه الشجاعة الكافية للتظاهر بأنه يرى العالم بأعين الرب.
ندرة
وما يستوقفُ المُتابعَ هو ندرةُ العقل السجالي المؤثر في البيئة المشحونة بسيولة أفكارٍ مُسلعنة، لا تخدمُ سوى العقيدة الرائجة بأنَّ السائد من الآراء وشكل الحياة المستنزف للحس الجمالي تتويجُ للمسيرة البشرية، ولم يعدْ في رصيد التاريخ ما يمكنُ التعويل عليه لمشاكسة التيار المُهيمن بكلمة «ما بعد». وكما يقولُ المفكر اللبناني كريم مروة، إن المنظرين للنظام الرأسمالي وديمومته نجحوا في إيهام البشر بأنَّ ليس من حقهم التفكير ببديل مع انهيار النموذج الاشتراكي، وأصبحَت النيوليبرالية قدراً للجميع. لعلَّ التبصر بهذا الواقع الزاخر بالتناقضات المضنية في حقيقته والواعد بالتكافؤ في الفرص على السطح، يتطلبُ الحفر في الشق الغائب من ثنائية اليمين واليسار وهذا ما تقومُ به الباحثة اللبنانية عايدة الجوهري في كتابها المعنون بـ»اليسار الماهية والدور» قبل الحديث عن محتوى ما قدمته الجوهري في إطار قراءتها لخلفية مفهوم اليسار الفكري والسياسي، لا بُدَّ من التنويه بأنَّ اليسار اللبناني بخلاف معظم الحركات اليسارية في العالم العربي تمكن من تأسيس القواعد الفكرية، وتُسجلُ له الجرأة في مراجعة المبادئ التي تحولت إلى منحوتات للعبادة الحزبية. وشب عن طوق وصايا المركز، سواء أكان متمثلاً بالسوفييت أو بالصين. ومن المعلوم أنَّ التبعية والقبول بالكليشهات الجاهزة تفرغ الكيانات السياسية من الإرادة المُستقلة إلى أن ينتهي بها المطاف نحو الجمود وتفصلها عن حقيقة الواقع شبكةُ من الأراجيف.
أياً كان الأمر ما درستهُ عايدة الجوهري في فصول مؤلَفِها يشملُ جملة من الإشكاليات التي واجهت اليسار العربي منها، غياب المبادرات الهادفة إلى صياغة أدبيات تلبي مُتطلبات الواقع ولا تُنافرُ خصوصية البيئة الاجتماعية والتكوين الاقتصادي. مما لا شكَّ فيه أنَّ التحولات التي أخذت بتلابيب العالم بعدما تعملقت الرأسمالية وتبعثرت أوراق منافسها قد أرخت بشبحها على معجم المفردات السياسية والفكرية، وعلت الأصوات معلنة نهاية الأيديولوجيا، وختام التاريخ ممهوراً بدمغة الرأسمالية، إلى أنْ أمسى مصطلح اليسار، حتى لدى فئة من دعاته، نوعاً من تكنولوجيا قديمة مقابل تكنولوجيا حديثة حسب تعبير الجوهري. إذن اشتدَّ التسابقُ للانضمام إلى عهد النيوليبرالية، وتشرذمَ اليسارُ كما لاحظت الباحثة على ثلاثة أصناف «أهل التبرؤ» و»أهل التهوين» و»أهل التذبذب» مستجلية ً في سياق تأملها أعراض تشكيلة السياسة السقيمة في الديمقراطيات المشوهة تختلطُ في مناخها مدلولات التسميتين «اليمين» و»اليسار» نتيجةً لتشتت الرهانات وتفاقم ظاهرة الاحتماء بالطائفة والمذهب والقومية. كما أنَّ مُصطلح اليمين غير متداولٍ في خطاب السياسي والإعلامي العربي، علماً أنَّ المواصفات الطاغية على المنهج والمواقف الغالبة على الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مطابقة بقضها وقضيضها للعقلية اليمنية.
وما تخلصُ إليه صاحبة «رمزية الحجاب» من خلال بحثها، أن معظمَ الكيانات السياسية الفاعلة في المنطقة تقعُ في متن «اليمن» أو «اليمين الرجعي» على الأغلب. ما يجدر بالذكر هنا أنَّ اللغط في الرؤية والالتباس في الاستعمال لا يلغي الجذور الفكرية والمستندات الفلسفية لمفهومي اليمين واليسار. كما لا يعتمُ المنشأ اللغوي للُمصطلحين إذ يُنسب أصلهُ إلى مكان جلوس النبلاء والأكليروس من جهة، وممثلي الشعب من جهة أخرى، قياساً إلى موقع الملوك الفرنسيين قبل الثورة الفرنسية. وفي هذا المنحى تشيرُ عايدة الجوهري إلى ما كان عليه موقف الأكليروس وهم يؤيدون حق الملك بالنقض، فيما ذهب ممثلو الشعب إلى تحجيم دور الملك. تُسلطُ الجوهري الضوءَ على الكليشهات وما فعلتهُ بحمولات مفردتي اليسار واليمين. إذ وصم اليسار بأنَّه ضد العائلة والدين والقيم وهو تجديف بالأخلاق والمُعتقدات. وما يحوم حول اليمين أنَّه مع الاستقرار ويقدس الحرية ويحمي الأمن الاجتماعي، غير أنَّ كل ذلك يخالفُ معطيات الواقع، لأنَّ اليميني كما تقولُ عايدة الجوهري، ما إن يلمح الخطرَ على مصالحه حتى يستنفرَ لشن الحروب الداخلية والخارجية. أما الحرية التي يوفرها فلن تكونَ مُفصلةً إلا على مقاس طموحات السوق الربحية. وما يجبُ الاعتراف به ونحن بصدد الحديث عن الربح والنفعية، أنَّ التيار اليميني وفق في تحويل الصراع بين الفرد والواقع البائس إلى صراع الإنسان مع نفسه من خلال تضخم ما يرغبُ فيه وخيبته بعدم بلوغ المجد الاستهلاكي.
خريطة الفكر
لا يينعُ الإدراك بما يعنيه اليسارُ أو اليمين، إلا بالاستطلاع في خريطة الفكر والعودة إلى رؤية أصحاب المذاهب الفلسفية وفهم نظرتهم بشأن ماهية الإنسان وما يكون ضمنَ حقوقه الداعمة لكيانه المُستقل عن الإكراهات الروحية والمادية. يتصدرُ مؤسسُ المدرسة الرواقية زينون، حسب رأي عايدة الجوهري موقعاً ريادياً لإقراره بأنَّ البشر يشتركون مبدئياً في التفكير العقلاني، ما يعني أنَّه لا وجودَ للاختلاف من حيث الاستعداد العقلي والقدرة على الاستدلال المنطقي بين الأفراد، بقطع النظر عن الانتماء العرقي وخلفيتهم الاجتماعية، ويتبعُ شيشرون أستاذه في الرواق، لافتاً إلى إن كان هناك اختلاف بين البشر فمردُ ذلك التعليم والتنشئة المؤاتية، أي إنَّ العوامل الخارجية تلعبُ دوراً في زيادة فرص المرء في ما يضيفهُ إلى ماهيته. وهذا يتقاطعُ مع ما ذهب إليه هرقليط بأنَّ الأشياء كلها واحدة، ومن المعروف أنَّ فيلسوف النار، أكدَّ على مبدأ الصراع بين قوى متضادة وبالتالي فإنَّ السكون الذي يقعُ عليه النظرُ في الأشياء ما هو إلا مظهر خادع. ونحى سقراط بأسباب الفروق بين الناس على التربية، مؤمناً بالتساوي في المواهب بين الجميع. وكان أفلاطون منظراً لمفهوم التفاوت الأصلي الإلهي بين البشر، ورأى أنَّ المعرفة ما هي إلا من حظوة الصفوة. في المقابل رفض أرسطو فرضية سلفه عن المعرفة جاعلاً منها حقاً للجميع لكن استمرَ في مناصرته لنظام الرق، ظناً منه أنَّ بعض البشر مجبولون بجينات العبودية، وهكذا يتموقع الفلاسفة على رقعة الفكر بناءً على نظرتهم لمفهوم الهوية البشرية. لا تكتفي عايدة الجوهري بالحث عن أطياف اليسار واليمين في الفلسفة الكلاسيكية، بل تنتقلُ إلى عصر الأنوار، مُتابعة بوادر اليسار لدى كل من ديكارت وكانط وجون لوك مُستجلية دور المعتقدات الدينية وتطويعها لحماية النظام القائم، الذي لا تعكسُ سياسته سوى مصالح الأقلية، فالدين على الرغم من قيمه السامية قد يضيف خوفاً إلى خوف في مناخ موبوء بالطغيان. أكثر من ذلك تقع في طيات الكتاب على قراءة متباينة لنظريات أساطين الفكر الاقتصادي، آدم سميث وريكاردو جيرمي بنثام. ما تتناوله الجوهري ليس سرداً للأفكار والتنظيرات حسب، إنما رصدُ الحراكات الثورية، مُستكشفة دوافعها الموضوعية منها ثورة القرامطة وثورة بابوف الذي كان يطالب بإلغاء الملكية الخاصة، مُقتنعاً بأنها شر البلية. وقبل التحول إلى دراسة مفهوم العدالة الاجتماعية لدى ماركس وفلسفته المبنية على المادية الجدلية والمادية التاريخية، تلتفت الباحثة إلى أقطاب الاشتراكية الطوباوية يُذكر أنَّ مقاربة عايدة الجوهري لمفاهيم ومفردات الفلسفة الماركسية تنطلقُ من عقلية نقدية مرنة وهي تصرحُ بأنَّ البروليتاريا لم تَعُد كما تَمثَّلها ماركس وأتباعهُ، القوة الأساس من قوى التغيير الاجتماعي، بعد انفتاح المُجتمعات على المهن الإدارية والرمزية الجديدة، ناهيك عن الثورة الرقمية التي غيرت الأمزجة وزادت من قيمة المظهر، كما أنَّ المضاربات والظواهر التي عجنت شكل الاقتصاد العالمي قد لا تُفسر على ضوء ما جاد به عقل ماركس. ربما لم يخطر في فكر صاحب «رأس المال» أنَّ التعليم سيكون عاملاً لتعميق الشرخ الاجتماعي، لأنَّ هذه القيمة الرمزية توفرها قوة المال، كما هي تتحول تالياً لمصدر اكتساب الثروة في سوق العمل. والأهم في هذا الكتاب هو الربط بين الأفكار والمعاينة للواقع، الأمر الذي يزيدُ من حيوية آلية البحث والاستقراء. والغاية المنشودة من هذا المنهج هو قطع الطريق على التنميط والاختزال، إذ لا يصحُ اقتصار اليسار على الفكر الماركسي. كما أنَّ استبدال عدد من اليساريين قبعاتهم بربطة العنق ليس حجة ضد الفلسفة اليسارية، ولا يطمس تاريخاً من فتوحاتها الفكرية.
ربَّما السؤال المركزي الذي يجبُ أن يعاد طرحه باستمرار، هو هل يمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الرأسمالية؟ لماذا لا يشيخ هذا النظامُ؟ قد يكمن السرُ فيما يقولهُ الفيلسوف الفرنسي دولوز، إنَّ كل ما هو سلبي بالنسبة إلى المُجتمعات السابقة صار عنصرَ إيجاب مع الرأسمالية، فضلاً على ما ذكر من أنَّ الرأسمالية لا تمتلكُ جذوراً وهي سيرورة تحرر دائم من الموطن.