الرواية العربية وحدود التخييل
ليست العمليات التخييلية شيئاً إضافياً في بناء الرواية، بل هي جوهر وأساس أي فعل إبداعي. الخطأ الكبير الذي يرتكبه غالبية الروائيين العرب هو اعتبار الواقع العنصر الحاسم، وأن التخييل معطل إبداعياً لارتباطه بما لا يمكن تجسيده ولمسه. وتنسى هذه الغالبية عن تبصر أو عن جهل، أن التخييل هو الجزء الأهم من البنية الروائية. انهيار الرواية الجديدة في الغرب وفي فرنسا تحديداً، عند ميشيل بوتور، وآلان روب غرييه، ونتالي ساروت وغيرهم من الذين شيّأوا الرواية بأطروحاتها النظرية. على الرغم من أن بعض عناصر هذه الأطروحات، أو المجموعة من الأفكار، كانت صائبة في عمومها من خلال تحديدها للرواية بوصفها مغامرة كتابية مفتوحة على المطلق، وليست منشأة مسبقة ترتبط بآليات بالرواية البالزاكية الجاهزة أكثر من ارتباطها بالمنجز الفردي، فقد حاول رواد هذه المدرسة خلق نظام يتداخل فيه الواقعي بالتخييلي دون روابط سببية عقلية، لدرجة تفجير المعنى والشكل. لكن عجز الرواية الجديدة أنها سقطت في فجوة من انتقدتهم، فلم تول أية أهمية للعمليات التخييلية في الرواية على الرغم من محاولاتها تحرير النص من المسبقات. أصبحت الرواية بذلك هيكلاً عظمياً حقيقياً. على العكس من ذلك، انبهار الغرب والعرب أيضاً بالرواية في أمريكا اللاتينية مرده تحديداً تفجير العمليات التخييلية في الرواية. تخييل تندمج فيه العبقرية الخاصة في عمليات البناء والتوليف، والروح العميقة الآتية من بعد سحيق، لمجموعة بشرية أو لأمة من الأمم. البشرية ليست مفصولة عن مخيالها، وإلا لما استطاعت العيش. منذ قطيعة هذه الرواية مع الثقافات الشعبية بوصفها ثقافات تحتية واندراجها ضمن النموذجية العقلانية الغربية، لم تستطع الرواية العربية أن تقفز عالياً في مشروعها. وظلت في دائرة الواقعي السطحي ولم تسبر أغواره. الواقعي لا يسبح في الفراغ، فهو ينبني على تاريخ ومخيال واسع يحتاج من الكاتب أن يتعمقه ويخترق حدوده. ماذا فعلت «ألف ليلة وليلة» في النهاية سوى العمل على فتح الفعل التخييلي إلى أقصاه، بوصفه الفعل الأهم في البنية الأدبية، السردية على وجه الخصوص؟ الشيء نفسه قامت به نصوص السرد الشعبي كالظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، وسيرة عنترة العبسي، وقصص كليلة ودمنة، ورحلة ابن بطوطة التي ليست بأي حال من الأحوال تاريخياً كما يعتقد كثيرون، فقد اتخذت من الرحلة ومن مادتها الجوهرية وسيلتها للدفع بالتخييل إلى درجة الجنون بحيث يتحول التاريخ في النهاية إلى شبيه بالخرافة بالمعنى السردي والأدبي وليس بمعنى الحقائق. ماذا فعل نص «حي بن يقظان» سوى أنه جعل من فلسفة الوجود متكأ له ليشيد تخييلاً عظيماً جعل من نصه عملاً سردياً اخترق الأزمنة كافة. جدارة هذه النصوص الشعبية أنها لم تكن، وقابلية حياتها تكمن في جذرها التخييلي الشعبي. ماذا فعلنا بكل هذه النصوص العظيمة في النهاية؟ أهملناها وتنكرنا لمنجزها وفتحنا أمامها أبواب النسيان القاتل، وكأنها لم تكن موجودة. السبب، هو العقل المنمّط والمكرس الذي فرضته المرحلة الكولونيالية، العثمانية والأوروبية، ووريثها الثقافي في فترة ما بعد الكولونيالية، الذي منع السرديات العربية المتنوعة من أي تطور حقيقي. مازلت أومن بأن القطيعة مع الثقافات الشعبية الغنية والرصينة في بناءاتها لأنها راكمت جماليات متعددة ومتداخلة، عربية وفارسية وهندية وصينية وغيرها، لتنتج حالات تخييلية عظيمة كالتي ذكرناها آنفاً. هذا «البتر» غير المفكر في نتائجه الكارثية، جعل الرواية العربية اليوم أكثر التصاقاً بالوقائعي وأكثر تسطّحاً، وليس بوصفها منجزاً أدبياً تخييلاً غنياً، ليس هو الواقع المادي منفصلاً عن مكوناته التحتية بأي حال من الأحوال، ليصبح السرد وأدواته المتعددة مجرد كاميرا محمولة على الظهر، يركض صاحبها في كل الاتجاهات لأخذ صور سريعة دون أن يكلف نفسه الدخول في أعماقها، فوراء كل صورة سلسلة من الأسئلة المعلقة وكثير من الأحداث غير المرئية، وكمّ لا يُحصى من الجراحات التي تنتظر استنطاقها. الأخطر من هذا كله هو أن القارئ بدل فتح داخله لاستقبال الغنى التخييلي وتقبله، رُبِّي على منطق الحقيقة المطلقة ومعيار الواقع بوصفه المرجع الحاسم. لهذا، كثيراً ما يواجه القارئ كاتبَه بسؤاله التقليدي: هل ما قلته في روايتك حقيقي؟ وهل الشخصية الفلانية لها مرجع واقعي؟ الكاتب في لاوعي السائل هو أداة الحقيقة. عليه أن يخضع لصرامة الواقع وليس لجنون التخييل العظيم الذي يخرج عن الواقع دون أن ينفيه، لكنه ليس مجرد صدى له أبداً.
المخيال هو الذي يؤثث النص بالشخصيات والوقائع والأمكنة والأزمنة، والهزات التي تمنحنا، نحن القراء، انطباعاً عميقاً بالحقيقة التي ليست في النهاية إلا حقيقة افتراضية لا تتعدى عتبات الأدب والنص المقروء. لكن قوة التخييل تدفع بها إلى الأمام بحيث تتحول إلى حقيقة ملموسة افتراضياً، على الرغم من أنها لا تنشأ إلا في سياق التجريد اللغوي. أكثر الواقعيات تشدداً وارتباطاً بالواقع الموضوعي والحقيقة المجردة، لم تستطع أن تتخلص من فعل التخييل، بل كان دوماً ركيزتها. حتى إميل زولا، الذي تأثر بالعلوم التجريبية وكان يريد في مؤلفه التنظيري «الرواية التجريبية»، الذي أصدره في 1880، رواية مجردة من كل الزوائد، رواية قريبة من العلم والحقيقة، لأن هدفها في النهاية توصيل معرفة واقعية وليس شيئاً آخر: «لنعرف الآن بوضوح الروائي التجريبي. كلود بيرنارد قدم تعريفاً للفنان هو كالتالي: من هو الفنان؟ هو الإنسان الذي ينفذ في منجزه الفني فكرة أو إحساساً خاصين. إنني أرفض هذا التعريف. بهذا المنطق عندما أنجز عملاً فنياً يسير فيه إنسان على رأسه، أكون قد أنجزت عملاً فنياً. إذا كان هذا هو إحساسي سأكون مجنوناً بكل تأكيد. يجب إذن أن نضيف أن الإحساس الشخصي للفنان يبقى رهيناً برقابة الحقيقة. إن كان المرجع الواقعي بالنسبة لإميل زولا محدداً للتخييل بكل اتساعه ومعطلاً له، فإن المدرسة السوريالية في الفنون والشعر هزمت هذه الرؤية التي بنت كل شيء على المرجع العلمي والطبيعي والحقيقة، كما في لوحات سالفادور دالي، التي تعد مثالاً حياً على ذلك.
تغاضى إميل زولا في كتابه المذكور عن أن الرواية تتأسس على جمالية اللغة وليس على شيء آخر، ويقف على رأس هذه القيم المعمار التخييلي. قبل أن يتراجع لاحقاً عن كثير من المفاهيم العلمية الجامدة التي حاول تطبيقها على الأدب، لكنها لم تنتج شيئاً بالمقابل. ترك فكرة العلم واتجه بنصه نحو الأدبية والتخييل اللذين بدون حضورهما، يفقد الأدب جوهره الفعلي الذي تأسس من أجله. وكل كتاباته التي تلت مشروعة الجامد والمؤقت تجلى فيها التخييل بقوة من حيث الشخصيات أو القضايا التي أثارتها نصوصه الروائية.
فقد راهنت الرواية على التخييل الذي يشكل عمودها الفقري الأساس. حاولت أن توسع من مجالاته من خلال الأنواع الأدبية الروائية السردية. في كل مرة، يلبس التخييل لباس السمة الواصفة للنوع، كالرواية الاجتماعية، البوليسية، التاريخية، النفسية، التجريبية، الأسطورية… وفي ذلك كله، كانت الرواية تستكشف مساحات جديدة في عالمها الغني، الذي تقاسمته الأنواع الفرعية كالتاريخ الذي منح للرواية عالماً مغلقاً استطاعت أن تخترقه وتظهر خفاياه وأسراره بمنظورها السردي، مثل النوع البوليسي الذي وفر لمتخيلها غنى جديداً وحركية لم تكن متوفرة في السرد التقليدي. وتوغلت الرواية في الأعماق النفسية من خلال الرواية النفسية قبل أن تبني معماراً حقيقياً ظل دفيناً في داخل الإنسان. تشكلت من خلال هذه الممارسات الأدبية واقعيات متعددة؛ من الواقعية الأوروبية التي راهنت على رجل المستقبل الذي ينتصر للعقل، خارج المنظومة الدينية التي كانت مهيمنة ومسيطرة على العقل الذي تراجع في العصور الإقطاعية التي تكاد تعتبر العقل جريمة. وقد عبرت واقعية القرن التاسع عشر عن ذلك بقوة كبيرة على الرغم من تنوعاتها المختلفة، فقد خلق جيل من الروائيين العالميين نماذج تخييلية حية انطبعت في الوجدان البشري وكأنها حقائق موضوعية ملموسة، بل أصبحت علامات مرجعية في الثقافة والحياة. لقد منح الروائيون لشخصياتهم الروائية النموذجية ما يكفي من التخييل ليجعلوها موازية للحقيقة الموضوعية مع الانحراف الذي يصنع الفارق الأدبي، بينما لم تكن هذه العناصر الموضوعية الخارجية شكلياً إلا وسائلهم لتحرير عمليات التخييل التي تجعل من الرواية فعلاً إبداعياً تخييلياً بامتياز وليس تاريخياً.