عن أية عنصرية يتحدثون؟
على الرغم من مناداة الغرب اليوم بالتعدد الثقافي والتداخل المعرفي العابر للحدود والثقافات، فأنه ما يزال يحذر من البحث في الأصول وتتبع التقاليد خشية أن تتخلخل فكرة تفوقه العرقي. تشهد على ذلك كثير من دراساته الكولونيالية وما بعد الكولونيالية حتى كأن في البحث عن الأصول سحباً لقبعة التفوق من فوق رأسه.
ومن يستقرئ تاريخ النقد الأدبي الغربي، فلن يجد سوى التصدير لمناهج ونظريات منها تفوح رائحة الشعور بالتفوق نظريا وتطبيقيا إن لم تكن مصبوغة بها اصطباغا تاما. وهكذا أَخَذَنا نقدهم يمينا ويسارا ومشينا وراء الصالح والطالح منه جيئة وذهابا.
ومن المؤسف حقا أن يكون في أي حديث يخرج عما صدّره إلينا هذا النقد هو ضرب من المجازفة وفيها يصبح الباحث غير ضامن لنفسه أن لا يشك أحد في نزاهته ورصانة ما يقوم به. بهذه الصورة ترسخت فرضية التفوق الغربي في أذهاننا مع أن عمر هذا التفوق الزمني لا يتعدى قرنين أو ثلاثة قرون ــ وفيها كثير مما حملته حضارات الأمم السابقة إليها ـــ هي أقل مما لنا من أرث ضارب في القدم ثم حكمنا على أنفسنا بالإتباع. حتى إذا قلنا إن للسرد الإنساني القديم قواعد عليها بنى السرد الأوروبي حداثته، فإن التجني والتنكر سيلحقان بنا لأننا (جحدنا) فضل هذا العقل الغربي الذي أعطانا ثقافته ولم يرد منا شيئا سوى أن نتبعها إتباع الأعمى للدليل.
وأي تفكير يغيّر من هذا المنوال، من قبيل البحث في الأصول أو التنقيب عن خصوصيات وهويات الأمم، فلن يُقابل إلا بما لا يُرضى من القول وما لا يُحمد من الأوصاف، وأشنعها الاتهام بالعنصرية.
هناك خطأ ينبغي أن نتفق على إصلاحه واجتنابه وهذا الخطأ هو الظن بإن الحضارة الغربية أعطت لنا ثقافتها وأدبها من دون أن تأخذ منا ثقافة وأدبا، وأنها دوما المؤثرة فينا وغير المتأثرة بنا. فنصحح أفكارنا ونقول إن الحضارة الغربية لم تتأسس من جراء النقل عن حضارات أمم غابرة بعيدة عنها كل البعد هي اليونانية والرومانية حسب بل بما نقل إليها أيضا من الحضارة العربية الإسلامية التي كانت لصيقة بالغرب تاريخيا وجغرافيا وكانت سببا في يقظة الأوروبيين من سبات العصور الوسطى، فكانت أول نهضة عرفتها أوروبا في حدود القرن السادس عشر بدءا بايطاليا ثم فرنسا وانكلترا. والحضارة العربية ظلت شاخصة حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وآثارها بقيت ماثلة للعيان حتى القرن السادس عشر.
ولا يمكن إنكار فضل الحضارة اليونانية والرومانية على المسيرة البشرية بما أسسته من ثقافة وأدب لكن أيضا كانت للفلاسفة والأدباء العرب المسلمين أدوارهم فقدموا للعالم ثقافة وأدبا يدلان على ما وصلته الأمم من تقدم حضاري بلغ أوجه خلال العصور الوسطى فكانت الحواضر العربية مراكز جذب وأولها بغداد ومدرستها المستنصرية وآخرها غرناطة التي شعت فيها الحضارة الإسلامية نورا على مدن حوض البحر المتوسط وشبه الجزيرة الاليبيرية حتى إذا سقطت غرناطة كان ذلك إيذانا بانتقال مشاعي لإرثنا العلمي والفكري والادبي إلى أوربا كلها.
ولا شك في أن الحديث سيطول بنا ونحن نتحدث عما لقيه علماء العرب ومفكروهم وأدباؤهم بعد سقوط غرناطة من أخطار كان أقلها السجن وأشدها الموت، بل إن الأدباء الأوروبيين الذين اتبعوا تقاليد سردنا القديم اضطروا في القرن السادس عشر إلى تغيير أسمائهم كي يصدّروا كتبهم القصصية خوفا من محاكم التفتيش الدينية والسياسية التي كانت تحظر أي شكل من أشكال الإتباع لتقاليد الثقافة العربية ومن بينها السرد العربي خذ مثلا سرفانتس ورابليه. ولا شك في أن حرية الأديب الاوربي تقلصت أكثر فيما بعد بسبب شيوع عقدة تفوق العرق الأبيض حتى صار معروفا عن الفرد الأوروبي حرصه على شخصيته وعلى وجوده الخاص وفردانيته.
فلماذا يكون طبيعيا حديثنا عن حضارة أوروبية بسببها تقدم العالم بينما يكون غير طبيعي حديثنا عن ثقافة عربية مؤسسة لتقدم تلك الحضارة، لأنها زودتها بما يجعل دورها العلمي متسارعا بوتيرة قوية فأصبحت في بضعة قرون مهيمنة حضاريا وعسكريا واقتصاديا.
أطرح هذا الأمر وأنا ألمس في دعوتي إلى أقلمة الإرث السردي العربي القديم رفضا عند من يؤاخذون الباحث العربي على سعيه في ملاحقة مستجدات مطروحة وتطويعها في خدمة الهوية الثقافية التي من أجلها تتسابق الأمم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى عد ذلك السعي مثلبة ونرجسية وعنصرية. مع أن لا أحد ينكر أن السرد العربي كان حلقة الوصل بين سرود العالم القديم والسرد الأوروبي الحديث ليس ذلك حسب بل إن الآثار الفلسفية والإبداعية لتلك الأمم ما كانت لتصل إلى الأوروبيين لولا الحياة العقلية لحضارتنا العربية.
فهل يغدو البحث عن موروث أمة ما، وبيان ما في عقولها على مر العصور والكشف عن إضافاتها إلى الفكر الإنساني (عنصرية)؟ أليس من يسوغ هذا الوصف ويروّج له هو نفسه متسلط يفرض على نفسه وغيره أن يستمر قابعا تحت الهيمنة، مجيّرا كل منجزات الفكر البشري للغربي ولعقليته حسب؟ ألا يجدر بنا عدم التفريط بإرث كل الأمم السالفة لأن في ذلك التفريط خيانة لجهد العقل البشري ومراحل تطوره التاريخي طويل الأمد؟
وما فيه نحن اليوم من (نعيم حضاري) كان قد أنبنى على أول مكتشفات إنسان النياندرتال وما قبله وما بعده. وليس للحضارة الراهنة أن تنسى القدحة الأولى بين حجرين التي منها انبثق اكتشاف النار وهي ما زالت معيننا الأساس في تطويع مصاعب حياتنا وتليينها وتكييفها لمصلحتنا. ولن تنسى أيضا الحرف المسماري الأول الذي منه تعاقبت المدونات كما ان التطور في المواصلات ما كان ليكون لولا استناده إلى أقدم اكتشاف أي العجلة وكذلك كانت الكتابة المسمارية والهيروغليفية الأساس في كل كتابة وتدوين به تيسرت المعرفة عبر مراحل البشرية المتباعدة الأزمان والأطراف، فكان التواصل الثقافي حتميا، به تنمو الحضارات وتكبر. ولولا تعاقبها وعملها كجسور ناقلة وعقول حافظة لكل موروثاتها، هل تمكنت الحضارة الراهنة من أن تصل إلى ما وصل إليه؟
إن النظريات ما أن تتأسس على فكر عنصري بما في ذلك النظريات الفلسفية حتى ينغلق أصحابها على تصور معين فتنبثق من جراء ذلك الانغلاق سياسات شنيعة تعبث بالبشر دمارا وفتكا وهلاكا، أفلم تنهض النازية الهتلرية على فكرة التفوق العرقي (العنصري) بأجلى صورها؟ وكيف يكون تثبتنا من التراث الإنساني القديم وتتبعنا الحقائق والوقائع والأعمال الفريدة التي ابتكرتها الأمم أو عظماء الأمم من كل جنس ولون وفي كل عصر، تقليلا من شأن الآخر الغربي؟ وعن أية عنصرية يتحدثون والبحث عن تقاليد موروثة في سرود عربية أو غير عربية يعتمد أدوات موضوعية وبأساليب عقلانية تحاول الكشف عما بقي منها في عمق السرود الحديثة بعد أن تغلغلت في بنياتها الداخلية وجرى عليها تطوير وتحوير وتغيير؟ إن إنكار ذلك، أمر لا يفعله عاقل، ولا يقبله عاقل.
وبلا غلو ولا عنصرية نقول: لولا الحضارة السابقة على الحضارة الأوروبية ــ ولا نريد أن نسميها باسمها تحاشيا لوصمنا بالعنصرية ــ لما بقي من الإرث الحضاري شيء؛ فهي التي حافظت وطورت وأضافت إلى جهود الأولين والسابقين عليها من حضارات الأمم الأولى آشورية وبابلية وإغريقية وفينيقية ويونانية وصينية وهندية، الخ. هكذا كان متن تلك الحضارة التي سادت في العالم واضحا للعيان منذ القرن السابع الميلادي حتى القرن الثالث عشر في الشرق ومن بدايات القرن الثامن حتى نهاية القرن الخامس عشر في الغرب، فأين كان دعاة العرق المتفوق وفي أية زاوية أو ظلام كانوا يعمهون؟
وايم الحق إننا نحب بقدر ما نستطيع من فخر أو حماسة أن نتباهى بما يؤشر للحضارة اليونانية أو الهندية أو الصينية وغيرها من منجزات خدمت ركب الحضارة الإنسانية، فلماذا هذا التحسس إن كان تحسسا حقا وليس خططا هدفها المصادرة والتضليل بالتصغير والتقليل.
*كاتبة من العراق