بريطانيا: احتدام الصراع بين النقابات والحكومة
أثارت حكومة المحافظين غضب النقابات بسبب خططها وضع قانون الحد الأدنى من مستويات السلامة الذي يوجب وجود رجال الإطفاء والإسعاف والسكك الحديدية أثناء الإضراب، ما عقد الصراع بين الحكومة والنقابات.
تمر بريطانيا بأكبر موجة إضرابات منذ عقود في قطاعات النقل والصحة والتعليم وموظفي الحدود وسائقي الحافلات وعمال البريد. ومن بين أولئك الذين غادروا وظائفهم للمطالبة بأجور أعلى الممرضات وعمال الإسعاف الذين دخلوا في نزاع مع إدارة خدمة الصحة الوطنية «NHS» التي تمولها الدولة، حيث يسعون للحصول على زيادات لمواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة. فقد بلغ التضخم في المملكة المتحدة أعلى مستوى له في 40 عامًا عند 11.1 في المئة أواخر العام الماضي، مدفوعًا بالارتفاع الحاد في تكاليف الطاقة والغذاء.
وشهدت المملكة المتحدة إضرابات في عدة قطاعات قد تؤدي إلى شلل الحياة اليومية، لذلك دعت حكومة ريتشي سوناك العاملين في هذه القطاعات إلى وقف الإضرابات، قائلة إنها لا تستطيع تحمل زيادات في الأجور بما يتماشى مع التضخم، وإنها حتى لو استطاعت تلبية مطالبهم فإن مثل هذه الزيادات ستزيد من التضخم. وقد صرح رئيس حزب المحافظين ناظم الزهاوي للإعلام في كانون الأول/ديسمبر الماضي بقوله: «رسالتنا للنقابات العمالية هي أن هذا ليس وقت الإضراب بل وقت السعي والتفاوض. لكن في غياب ذلك من المهم أن يكون لدى الحكومة خطة بديلة». مضيفاً أنه «يمكن الاستعانة بالجيش لقيادة سيارات الإسعاف في حالات الطوارئ».
في خطابه الأول لهذا العام، ذكر رئيس حكومة المحافظين ريتشي سوناك «خمسة وعود» حين قال «خمس ركائز سنبني عليها مستقبلا أفضل لأولادنا وأحفادنا». وتعهد بخفض التضخم إلى النصف هذا العام، ومعالجة أزمة النظام الصحي والتصدي للهجرة غير الشرعية، من خلال عرض أولوياته في الوقت الذي تمر فيه المملكة المتحدة بأزمات اجتماعية خطيرة. وقال «سنخفض التضخم إلى النصف هذا العام لتخفيف الخناق عن كلفة المعيشة «و»سننمي الاقتصاد من خلال خلق وظائف بأجور أفضل وفرص في جميع أنحاء البلاد». كما وعد بخفض الديون التي ارتفعت منذ منتصف عام 2021 تحت تأثير التضخم الذي يقارب نسبة 11 في المئة، وتعهد بخفض التضخم إلى النصف. كما وعد سوناك بخفض طوابير الانتظار الطويلة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية الذي لم يعد قادراً على الاستيعاب بعد أكثر من عشر سنوات على التقشف والجائحة.
وبدت حكومة ريتشي سوناك حازمة في مواجهة الإضرابات المتزايدة، إذ لم تحرز اللقاءات الأولى بين الحكومة والنقابات أي تقدم. وكان رئيس الوزراء قد صرح لشبكة «BBC « يوم الأحد 8 كانون الثاني/يناير في معرض رده على سؤال حول نية الحكومة الاستجابة لمطالب النقابات بالقول: «إن أول ما يتعين علينا القيام به هو الشروع في محادثات بشكل ملائم، وهنا تكمن أهمية يوم الاثنين، نحن نريد إجراء هذه المحادثات».
اجتمع وزراء الحكومة مع قادة النقابات العمالية يوم الاثنين 9 كانون الثاني/يناير في محاولة لإنهاء موجة الإضرابات التي أعاقت شبكة السكك الحديدية وأدت إلى توتر النظام الصحي المثقل بالأعباء. وقد أجرى وزير الصحة ستيف باركلي محادثات مع نقابات الرعاية الصحية، بينما اجتمع وزراء آخرون مع نقابات السكك الحديدية التي نظمت أشهرا من الإضرابات، كما تخطط نقابات مهن التعليم للإضراب عن الفصول الدراسية.
ويعاني القطاع الصحي في بريطانيا من العديد من المشاكل، إذ إن الآلاف من أسرة المستشفيات يشغلها أشخاص بامكانهم الخروج من المستشفى لكن ليس لديهم مكانا يذهبون إليه بسبب ندرة أماكن الرعاية طويلة الأجل. وقد أدى ذلك إلى توقف سيارات الإسعاف خارج المستشفيات مع المرضى الذين لا يمكن قبولهم، وبالتالي ينتظر الأشخاص الذين يعانون من حالات طوارئ صحية لساعات وصول سيارات الإسعاف.
ويصف المراقبون الوضع في قطاع الصحة البريطاني بالحرج للغاية، مع إضراب الممرضين يومين في كانون الثاني/يناير الجاري، بعد أن امتنعوا عن العمل في كانون الأول/ديسمبر الماضي، في سابقة لم تحدث منذ أكثر من 100 عام. وقال زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر لشبكة «سكاي نيوز» إن «النظام الصحي ليس منهكاً فحسب، بل منهاراً». وتعهد بوضع خطة لإصلاحه إذا أصبح رئيساً للوزراء بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، المقرر إجراؤها خلال عامين على أبعد تقدير.
وصرحت بات كولين، رئيسة نقابة الكلية الملكية للتمريض، إنها رأت «فسحة من التفاؤل» في بيان رئيس الوزراء ريتشي سوناك يوم الأحد 8 كانون الثاني/يناير الذي قال بأنه «على استعداد لمناقشة مطالب الرواتب المعقولة التكلفة والمسؤولة». لكن يبدو إن حكومة المحافظين تصر على مناقشة معدلات الأجور للسنة المالية 2023 إلى 2024 التي تبدأ في نيسان/أبريل وليس العام الحالي.
وزادت الإضرابات من الضغوط على النظام الصحي بما في ذلك زيادة الطلب على الرعاية بعد تخفيف القيود المفروضة على انتشار الأوبئة؛ إذ شهدت المملكة المتحدة زيادة واضحة في إصابات الأنفلونزا وفيروسات الشتاء الأخرى بعد عامين من الإغلاق، كما يعاني قطاع الصحة من نقص حاد في الموظفين بسبب الإنهاك الوبائي ونقص العمال الأوروبيين في المملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وأفادت إحدى النقابات المشاركة في المحادثات بأن وزير الصحة ستيف باركلي يدرس التعجيل بزيادة رواتب موظفي هيئة الخدمات الصحية الوطنية المقررة العام المقبل في إطار الجهود المبذولة لمنع المزيد من الإضرابات. وأشار باركلي خلال اجتماع مع النقابات الصحية، الاثنين 9 كانون الثاني/يناير، إلى أن التحسينات في الكفاءة والإنتاجية في قطاع الخدمة الصحية يمكن أن «تفتح الباب أمام تمويل إضافي» لتؤدي إلى زيادة عرض تسوية الأجور لعام 2023/24 في الربيع.
قانون الحد الأدنى من مستويات السلامة
من جانب آخر أثارت حكومة المحافظين غضب النقابات بسبب خططها لزيادة صعوبة إضراب العمال الرئيسيين من خلال وضع قانون يعرف بقانون «الحد الأدنى من مستويات السلامة» الذي يحدد وجوب وجود رجال الإطفاء وخدمات الإسعاف والسكك الحديدية التي يجب الحفاظ عليها أثناء الإضراب. إذ تم تقديم مشروع القانون لمجلس العموم يوم الثلاثاء 10 كانون الثاني/يناير غداة عقد نقابات عمال النقل والصحة والتعليم سلسلة اجتماعات أزمة مع وزراء الحكومة. لذلك بدا تحقيق انفراج في الصراع الدائر بين الحكومة والنقابات أمرا مستبعدا في المدى المنظور.
واعتبر وزير الأعمال البريطاني غرانت شابس أن القانون الجديد، الذي طرح أمام مجلس العموم البريطاني يعد استجابة «منطقية» لموجة الإضطرابات العمالية، وفق ما أوردته صحيفة «اندبندنت» كما قال شابس في تصريحات لمحطة «راديو تايمز» إن مشروع القانون الجديد سينهي عدم المساواة التي لوحظت أثناء إضراب موظفي سيارات الإسعاف، عندما اتفقت نقابات مشاركة في الإضراب على مستويات متباينة من الخدمة مع مؤسسات محلية في هيئة الخدمات الصحية الوطنية. وأضاف: «لا أعتقد أن أي مجتمع متحضر ينبغي أن يشهد وضعاً لا يمكن فيه التوصل إلى اتفاق، على سبيل المثال، بشأن تواجد سيارة إسعاف في يوم إضراب، لخدمة المصابين بأخطر أنواع الأمراض».
وأشار شابس: «لهذا السبب سأقدم اليوم تشريع الحد الأدنى من مستويات السلامة ومستويات الخدمة في مرافق الخدمات العامة الرئيسية، للتأكد من أننا لن ننتهي في موقف تكون فيه حياة الناس معرضة للخطر، مع الاستمرار في احترام الحق في الإضراب». وقلل من احتمال إقالة أعضاء النقابات لرفضهم العمل بما يتماشى مع القانون الجديد، وأصر على أن الحكومة مستعدة لمواجهة الطعن في التشريع أمام المحاكم. وأوضح أن الحكومة تريد إنهاء «الإضرابات الدائمة» في شبكة السكك الحديدية، لافتاً إلى أن التشريع الجديد لمكافحة الإضراب من شأنه أن يجعل المملكة المتحدة «متوافقة» مع القواعد في دول أوروبية أخرى.
لكن بول نواك الأمين العام لمؤتمر النقابات العمالية، وهي هيئة شاملة تمثل أصوات 48 نقابة في جميع أنحاء المملكة المتحدة، حذر من أن التشريع الجديد قد يدفع نحو تزايد حركة الإضرابات. وقال: «هذا التشريع يعني أنه عندما يصوت العمال ديمقراطيا للإضراب، يمكن إجبارهم على العمل وفصلهم إذا لم يمتثلوا. هذا أمر غير ديمقراطي وغير عملي ومن المؤكد أنه غير قانوني» وأضاف «لنكن واضحين، إذا تم إقرار هذا القانون فسوف يطول أمد النزاعات ويؤدي إلى تسميم العلاقات بين الحكومة والنقابات، ما سيؤدي إلى المزيد من الإضرابات المتكررة». من جانبه، قال الأمين العام لاتحاد فرق الإطفاء مات راك إن «هذا القانون يمثل هجوما على جميع العمال بمن فيهم الذين أبقوا خدماتنا العامة مستمرة أثناء جائحة كوفيد-19. إنه هجوم على أبطال كوفيد البريطانيين وعلى جميع العمال. نحن بحاجة إلى حركة مقاومة جماهيرية تقف بوجه هذا الهجوم الاستبدادي».