حياة وموت لسان الدين بن الخطيب
لسان الدين بن الخطيب، شخصية بارزة عالية مضت في التاريخ وكأنها لم توجد للأسف، بل كادت تدفن حية لأسباب تتعلق بالسلطة. فقد ترك لسان الدين بن الخطيب أثراً بالغاً في الزمن الذي عاشه. استطاع أن يجمع بين خاصيتين كثيراً ما تناقضتا، فلا هي ترضي السياسة ولا هي تشبع الأدب وتمنحه حقه، نظراً للدوامة التي عاش في عمقها. فقد شغل منصب وزير مرموق لدى بني الأحمر في غرناطة، وكان من الأوائل الذين استقبلوا عبد الرحمن «ابن خلدون»، كما اعترف بذلك هذا الأخير في كتابه «التعريف بابن خلدون»، وتكونت بينهما صداقة علمية كبيرة ومنافسة ثقافية سرية تحتية اشتعلت نيرانها لاحقاً عندما اتسعت أطماع ابن خلدون بين رجلين، واحد مستقر في السلطة. فقد أصبح مقرباً من بني الأحمر، وهذا ما أغضب ابن الخطيب. مثل رواد عصره، ألف ابن الخطيب كثيراً، بعض نصوصه وصلنا وبعضه الآخر مُنع، بينما الكثير مما كتبه قام هو نفسه بتدميره مخافة أن يسقط بين أيدي من كانوا يكيدون له. كتب في التاريخ «الإحاطة في أخبار غرناطة»، كما كتب في مجالات كثيرة منها الشعر الذي برز فيه رقيقاً ناعماً، وكان من الأقلية القليلة التي ربطت بين الموسيقى والأدب، كما كتب في التصوف والفلسفة ومعارف عصره الدينية. في النهار، كان يكتب في السياسة، وكان يتفرغ ليلاً لكل ما له علاقة بالأحاسيس والشعر والأدب، حتى لقب بـ «ذي العمرين» و»ذي الوزارتين» لارتباطه بالثقافة بوصفها نشاطاً روحياً متوغلًا فيه، وبالوزارة في عهد السلطان محمد الخامس (محمد الغني بالله).
رجل بهذه الصفة وهذا القدر من النجاح لا بد أن يتعرض لعواصف غير محسوبة في ظل الوشاية التي كانت أهم سلاح لتدمير الخصم وتسفيهه قبل الانقضاض عليه. ذئاب وميليشيات منظمة داخل قصر السلطان، لا قوة لها إلا في ظلمة الظل. فقد سعى كثيرون للنيل منه، أشدهم حقداً كان الوزير سليمان بن داود، والقاضي أبو الحسن علي النباهي، وصديقه الشاعر محمد ابن زمرك الذي كاد له حتى اغتياله، بدل التحالف معه ضد الحسودين والقتلة السريين، الذين راهنوا على زرع الشقاق بين لسان الدين بن الخطيب والمؤسسة السلطانية التي عرفها جيداً من الداخل، انتهى مصيره بين يدي ألد أعدائه أبو الحسن علي النباهي، قاضي قضاة غرناطة الذي وجد فرصته غير المنتظرة للتخلص منه، فكان من وراء استصدار فتوى قتله، غيابياً، لأن لسان الدين الخطيب كان وقتها أن استمر غيابه أكثر، لدرجة اتهامه بالمناورة مع أعداء بني الأحمر والتآمر مع أطراف خارجية. واحتوت وثيقة الحكم (يناير 1372) التي جاءت في شكل رد على ما كتبه ابن الخطيب في شأن الحاكم. تلخصت التهم فيما يأتي: «تركه لسلطانه أيام كان لاجئاً بالمغرب، وسقوطه عليه سقوط الذباب لما عاد إلى مُلكه، وضرب وجوه رجاله بعضها ببعض، وإخلاء الجو لنفسه والاستبداد بالأمر والنهي… والتدخل في أمر القضاء لصالح أطراف ضد أخرى أيام ولايته القضاء».
الحقيقة التي ظلت مخفية هي أن لسان الدين بن الخطيب عندما رجع إلى الأندلس وتقلد أمر حكومة غرناطة، خاض حرباً ضروساً ضد عصابات التملّق والمستعاشين، لأن ذلك من شروط توطيد دعائم الملك بعد الانهيارات التي مست المملكة في العمق. السلطان هو من استغاث به ووجه إليه دعوة الالتحاق بالأندلس لتولي الوزارة لما يعرفه عنه من كفاءته السياسية، في وقت كان فيه لسان الدين بن الخطيب زاهداً بين تلمسان وسلا. رجع إلى الأندلس سنة 763 هـ / 1362م، وفاء لسلطانه، لشغل منصب الوزارة من جديد وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما تهمة تدخله في القضاء فمردود عليها؛ فهو لم يفعل ذلك إلا من باب إرجاع القضاء الذي ضل الطريق نحو الحق.
فقد وقف ضد قتل ابن الزبير أحد المتهمين بالزندقة، لأن التهمة جاءت بلا سند يذكر.
وتدخل لإطلاق سراح أحد المتهمين بسبب آرائه الشخصية التي يمكن مناقشتها عقلياً، كما تدخل لإطلاق سراح ابن أبي العيش الذي عاود معاشرة زوجته بعد طلاقه منها طلاقاً بالثلاث، إذ رأى أن الطلاق تم في لحظة غير عقلية لا يجوز الحكم فيها. كما اتهم بالفساد، والاغتناء غير القانوني، والتبذير وتبديد المال مستغلاً منصبه. فقد اشترى، كما تقول وثيقة الاتهام، ضياعاً كثيرة وبنى بيوتات أندلسية شديدة الأناقة والهندسة، بغير ماله. تهمة الزندقة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ تكفي وحدها لجر صاحبها نحو النطع أو المشنقة. الشاهد في ذلك هو كتابه «محبة الله»، الذي ألفه في غرناطة بعد أن قضى زمناً طويلاً في تأملاته الصوفية. كما اعتبر كتابه «روضة التعريف بالحب الشريف» تأييداً لمذهب الحلول والوحدة المطلقة، وهي صيغة صوفية لم تكن مستساغة. حتى نقاشه للمقولات السنية اعتبر خروجاً عن الدين ومساً بالتصورات النبوية وتحقيراً للرسول الأكرم. نقده الصارم لـ «الرقية الشرعية» التي اعتبرها شذوذاً دينياً لا يليق بالعقل البشري، فالعلاقة بين العابد والمعبود مُباشِرَة، ولا تحتاج إلى وسيط. اجتماع التهمتين الخطيرتين: السياسة والزندقة، كان كافياً للدفع به نحو الإعدام. يضاف إلى ذلك أن أخذ عليه أيضاً تركه لمنصبه وهروبه في سنة 773 هـ / 1371م دون علم سلطانه الغني بالله، ليلتحق بالسلطان المريني في تلمسان يوم 19 رجب من السنة نفسها / يناير 1372م. لقد كان لسان الدين ابن الخطيب متيقناً بأن سلطانه لم يكن ليسمح له بمغادرة الأندلس، فبعث إليه، وهو يغادر وطنه إلى غير رجعة، برسالة وداع، يبرئ فيها نفسه ونزاهة مقصده، مبرراً هجرته إلى العدوة الأخرى بـ «غرض الانقطاع عن الناس، والتفرغ للعبادة والفرار إلى الله وحده»، فوجد سلطان غرناطة في هروب ابن الخطيب مسوغاً لقبول أقوال أعدائه فيه، وثبت ذلك لديه أكثر حينما سعى سلطان بني مرين لديه بأن يخلى سبيل أسرة ابن الخطيب.
وبذلك خلا الطريق لأعدائه، فعقدت له محاكمة غيابية في غرناطة انتهت إلى مصادرة أملاكه وحرق كتبه في ساحة غرناطة بحضور فقهاء النظام الذين طالبوا بإنزال عقوبة الإعدام عليه. وكان لا بد من استرجاعه من تلمسان والمغرب نحو الأندلس. وكان السلطان المريني عبد العزيز المريني يرد دائماً على بني الأحمر: «لماذا لم يقبضوا عليه لما كان عندهم». لكن بعد وفاة السلطان عبد العزيز المريني في أكتوبر 1372م، وتولى ابنه أبو زيان محمد السعيد بالله (في الرابعة من عمره)، فوُضع تحت وصاية الوزير أبي بكر بن غازي الذي سلك نفس طريق سلطانه، رفض طلبات الغني بالله؛ لكن بني الأحمر تمكنوا من الإطاحة بالسلطان ووصيه أوائل محرم 776 هـ / يونيو 1374م، وتولى أبو العباس أحمد بن سالم زمام السلطنة، فغابت الحماية عن ابن الخطيب، وقبض عليه بإيعاز من الوزير سليمان بن داود، وأودع السجن، وصودرت أمواله وأملاكه، وبعث الغني بالله كاتبه ووزيره محمد بن زمرك، يحمل محضر الإعدام. نكّل به وعذب قبل أن ينظم الوزير سليمان بن داود مسرحية اغتيال لسان الدين بن الخطيب، بإيعاز من الغني بالله، ويدخل عليه مجموعة من الزبانية في سجنه ويخنقونه في شهر آب من سنة 1374م، ودفن في مقبرة باب الشريعة (باب المحروق) في فاس القديمة. في اليوم الموالي من دفنه، أخرج الحاقدون جثته وأحرقوها، بالخصوص الرأس، ثم أعيد دفنه. من ذلك جاءت تسمية «ذو القبرين».