لبنان واللغات القاتلة… ولو يتوقف ياسر العظمة عن التمثيل!
كلام الفنان السوري ياسر العظمة، في الجزء الثاني من برنامجه على يوتيوب «مع ياسر العظمة – مكانك في القلب»، معقول في حالة واحدة؛ إذا ما قيس بتطبيل موالي النظام والشبيحة في بلده، وهو معيار لا نحسب أنه هو نفسه يمكن أن يرضاه. لكن معايير أخرى عديدة ستجعل الفيديو قطعة من ماض سحيق قد يستحق حلقة من مسلسل «مرايا» ذائع الصيت، لا أكثر، وقد تغامر الشاشة الرسمية السورية بعرضها، كما غامرت بسواها، مثل «بقعة ضوء»، ومسرحيات وأفلام دريد لحام.انطلق العظمة، في بثه الجديد، من سؤال «لماذا يهاجر السوريون»، وأكد أن أحداً لا يهاجر من دون أسباب قاهرة، من غياب الكرامة والكهرباء وقلة الإمكانيات والشعور بالاضطهاد والإحساس بأنك «كمالة عدد» وأن لا قيمة لرأيك. كذلك أنت تهاجر لأن «اقتصادك منهار، بفعل طغمة من التجار الأشرار»، ولضمان العيش بظروف أفضل ببلاد لا حروب فيها، والفنان نفسه يلخص جوابه بالقول: «يلجأ السوريون للهجرة بسبب اليأس، تفاقم القلق، انقطاع الأمل ببلوغ مستقبل آمن». انطلقَ من حقيقة أن «الوطن غال»: وكان ينقص أن يضيف أن «الوطن عزيز»!
مشكلة كلام العظمة تقع أولاً في كونه يتجاهل أسباب الكارثة السورية المعروفة للجميع، أي بقاء بشار الأسد ونظامه في السلطة، وتحميلها إلى «تجار» و»حروب» (أما تفاقم القلق فهذه وحدها حكاية، تذكر بالأممي الأسبق بان كي مون)، وهو يكاد يساوي بين أسباب الهجرة من سوريا مع غيرها من دول عربية مجاورة: «ما في مسؤول عربي طلع حذرنا من الهجرة والتهجير». ثانياً أن الكلام خجول ورمادي رغم أن الرجل يتحدث من خارج البلاد، في وقت نجد كلاماً أشجع من هذا يصدر من قلب البلاد أحياناً. هنالك أيضاً ما يضعف خطبة العظمة (عدا تفاقم القلق)، أنها تأتي وكأنها دفاع شخصي عن هجرته هو بالذات، وعلى ما يبدو فإن خطابه يأتي رداً على «عبوس ونَشَفَان» بلده في وجهه إثر زياراته المتكررة إليه. لا بدّ أن ملامات كثيرة على غيابه ترمى في وجهه على الدوام.
يظل ياسر العظمة يستعير لغته نفسها، إيماءاته، بهلوانياته اللغوية المنقرضة والمضجرة ذاتها، إنه، باختصار، ما زال يمثل، حتى بعد أن اختار التوجّه إلى الناس.
من يتتبع اليوم ما يجري بالتوازي مع الاحتجاجات الرائعة في إيران لا بد سيلاحظ كم المبدعين والفنانين والرياضيين ومختلف المشاهير يقفون مع المتظاهرين، تجدهم في كل مكان، على الأرض، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، يقولون ويبثون ويتضامنون، والعديد منهم في السجون. لن نطالب العظمة أن يذهب إلى السجن، لا سمح الله، لكن لنتحدث عما يمكن أن يفعله فنانو ومشاهير الخارج، إن كان مقاول وفنان مصري مغمور استطاع أن يحرك تظاهرات في الشارع المصري، لطالما تخيلت فناناً بشهرته ومحبة الملايين له لو كرس فيديوهاته لفضح النظام، ولا شك أن عدداً لا يحصى من الناس جاهز ليضع بين يديه الحقائق والإحصائيات والصور. إنكم تضحكون الآن! تقولون ليس ياسر العظمة من يلعب هذا الدور. دعونا نأمل فحسب. وإن كان كل انشقاق، وكل كلام يرتدي قناع الحق، بعد انشقاق رامي مخلوف باطل ولا يعول عليه.
لافت أيضاً أن ياسر العظمة مصرّ، رغم ظهوره خارج أقفاص «مرايا»، ورغم جرأته في مواكبة وسائل التواصل الحديثة، إلا أنه يظل يستعير لغته نفسها، إيماءاته، بهلوانياته اللغوية المنقرضة والمضجرة ذاتها، إنه، باختصار، ما زال يمثل، حتى بعد أن اختار التوجّه إلى الناس، السوريين، وجهاً لوجه، بحديث مباشر. إلى حد يدفع للتساؤل كيف يتحدث الرجل في الحياة!
نريد هذه المرة أن نسمعك كمواطن، صاحب رأي، إنسان، لا كممثل. فقد حان الوقت للخروج من متاهة المرايا، من الأقفاص القديمة، ومن الغرق المتفاقم بحسابات زيارة البلد، متوسلاً وجهاً أقل نشفاناً.
أنصاف المواقف
أثار فيديو ياسر العظمة، فور بثه، اعتراضات شتى، واللافت أنها جاءت من ضفتي النظام ومعارضيه على السواء. ومن أبرز تعليقات الموالين تعليق لإعلامي طائفي كان جوالاً يبث سمومه من جبهات القتال. وهو قد تناول نقطة واحدة ليردّ عليها، وفي استعادة واضحة لنظرية الفنان بسام كوسا، بخصوص: «إذا أمي مرضت ما بتركها وبمشي، لما بتمرض البلد ما بحمل حالي وبمشي، لا يمكن واحد أمه تمرض يكبها (يرميها) ويدير ظهره ويمشي بهديك اللحظة»، يقول الإعلامي الطائفي: «بتعرف ليش زعلانة (سوريا)، زعلانة لأن تركتها وغادرتها، أنت وأمثالك. بتعرف ليش؟ لأن الأم يلي ربت ولادها وقت مرضت تركوها وصاروا يجوا متل الضيوف. بتعرف ليش زعلانة؟ لأن في كتير من ولادها طعنوها وطلعوا عاقين، هلق عرفت ليش هي زعلانة، زعلانة لأن كتار يلي تركوها وفكروا أنه ياخدوها ع دار العجزة، معقول حدا بيترك بلده يلي هي أهله وهي أمه وأبوه». خطاب يوازيه خطابات أخرى على الجانب السوري، من أبرزها تدوينة لرئيس تحرير صحيفة شبه رسمية، وناطقة غير رسمية باسم النظام. قال فيها: «خليني خاطبك مباشرة وقول: لا كتير تعصر حالك بالسكيتشات وتقلبه دراما وتلوي قلبنا على بلدنا، حارتنا ضيقة ومنعرف بعض كتير منيح.. صحيح إنك ممثل كوميدي بارع، بس صدقني هي «العصورة» مفضوحة والدموع واضح أنه مزيفة، ويا ريت تحاول تقدم شي لأبناء بلدك وأنت بالغربة لحتى تلاقي شي حدا يبتسملك لما ترجع».
أنصاف المواقف ليست خير الأمور بالضرورة، وإمساك العصا من المنتصف ليس محموداً على الدوام.
هذه، أعلاه، عينة تشي بأن الحملة على الفنان الدمشقي لن تتوقف هنا، فالنظام، قبل معارضيه، لا يقبل الموقف الوسط. يبقى أن يعرف الفنان نفسه، بعد هذا العمر، أن أنصاف المواقف ليست خير الأمور بالضرورة، وأن إمساك العصا من المنتصف ليس محموداً على الدوام. وإن كنت ستدفع الثمن في مختلف الأحوال من الأفضل أن تدفعه وأنت إلى جانب الحق. قَوِّ قلبك قليلاً، لن تخسر سوى بضع زيارات سنوية، ناشفة.
لغات قاتلة
يحاول المرء استبدال درس «اللغة الشيعية»، بحسب برنامج مثير للجدل على تلفزيون «إل بي سي إي»، بأي لغة (أو لهجة في الواقع) أخرى من حولنا، لاختبار إن كان الأمر سيكون مستفزاً لأصحاب اللغة، بالطريقة نفسها التي استفزت أبناء الطائفة الشيعية في لبنان، ولا نحسب أن في الأمر استفزازاً، على الأقل ليس بالطريقة نفسها التي غضب فيها ميليشياويو «حزب الله» (فالأكيد أن هذا الاستقواء في ردة الفعل، إلى حد إلقاء قنبلة على القناة صاحبة البرنامج، لن يصدر عن شيعي عادي).
اللهجة الأخرى كانت دائماً محل استهجان وتندّر، فلماذا تصبح لهجة بعينها مقدسة؟ وهل يستحق كل تندّر إلقاء قنبلة.
ماذا يفعل الناس في يومياتهم وسهراتهم غير التنكيت والسخرية وتقليد لهجات مجاورة. اللهجة الأخرى كانت دائماً محل استهجان وتندّر، فلماذا تصبح لهجة بعينها مقدسة؟ وهل يستحق كل تندّر إلقاء قنبلة.
لفتني مرة فيديو يقدمه معلمو اللغة الفرنسية للطلاب الأجانب هنا في فرنسا، وكان يتطرق بمرح إلى الكليشيهات السائدة عن الفرنسيين، من دون أي محاولة لدحضها. ربما كان الأجمل في درس اللغة هذا هو أن لا حرمة ولا قداسة للغة أو قومية أو فكرة.