إنْ قال المطران عطا الله حنا إنه يقف إلى «جانب سوريا، وكل الجهود المخلصة لرفع الحصار عنها» يمكن أن نفسر، بحسن نية، بأنه يتعذب لأحوال السوريين، ويرى أن الحصار على النظام إنما قد يطالهم هم بالدرجة الأولى. لكن عندما يشدد الدعوة للدفاع عمّن «دافع عن فلسطين، وناصر القضية الفلسطينية»، وهو يقصد «سوريا التي تعرضت لتحديات جمة، ومؤامرات كثيرة بهدف إضعافها، ولكنها صمدت رغم ذلك»، سنكتشف على الفور أننا «على نيّاتنا»، وأننا أحسنا الظن أكثر مما ينبغي. عندما يدعو إلى «حراك عربي وعالمي واسع، نصرة لسوريا قلب العروبة النابض»، سنعرف أن الرجل، خصوصاً وهو يتحدث عن «قلب العروبة النابض»، إنما ينبض بحب البعث، ونظام الديكتاتورين، الأسد الأب ونجله الأكثر توحشاً.

إن لم يُتِح لك العقد الأخير الإنصات إلى عذابات الفلسطينيين، فلا أمل أن نطالب بأن تفتح صندوق بريدك، وصدرك قبل ذلك، للإنصات إلى مراراتهم.

عندما نصل إلى الفقرة التي تقول بأن دعوة المطران إنما هي جزء من «الحملة الشعبية العربية والدولية لرفع الحصار عن سوريا»، المنطلقة بدعوة من رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن معن بشور، سنعرف أن الرجل مغرم ببشار الأسد، بتوحشه، وإجرامه بحق السوريين ومن في حكمهم، أي حوالي نصف مليون فلسطيني ذاقوا أمرّ الويلات. إن لم يُتِح لك العقد الأخير الإنصات إلى عذابات الفلسطينيين، فلا أمل أن نطالب بأن تفتح صندوق بريدك، وصدرك قبل ذلك، للإنصات إلى مراراتهم.

زهير عبد الكريم

أخذت الصورة التي التقطت، منذ سنوات، لزهير عبد الكريم، الممثل السوري، منحنياً ومقبلاً بسطار (حذاء) جندي في جيش النظام السوري حيزاً لا يستهان به من مقابلته مع رابعة الزيات في برنامجها «شو القصة». سألت المذيعة بإلحاح، وربما كان في تصورها أنها ستسبب حرجاً لضيفها، لكن الأخير سرد حكاية الصورة بالتفصيل؛ كيف طُلب منه أن يرفع معنويات الجنود على خطوط التماس، وكيف توضأ وصلى ركعتين صباحاً، مؤكداً أنهما لوجه الله تعالى، لا لأي هدف آخر، ومضى إلى حدود إدلب، إلى معمل القرميد، وتحت القصف والخطر بلغ خنادق العسكر، وقال لهم عند وصوله: «نحن في الشام ينقصنا معنويات، وجئنا لنأخذها منكم». وروى عبد الكريم كيف انحنى على أحذية الجند (من المرجح أنه كان مستعداً لتقبيل أي شيء لوصوله بالسلامة)، فيما المذيعة تلحّ: أما من طريقة لرفع المعنويات إلا بالنزول؟! ها أنت ترى كيف استفز الأمر كثيرين، وتسبب لك بانتقادات وخسائر! جواب زهير كان: «أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصمُ».

زهير عبد الكريم قال إنهم ما عادوا يعرضون عليه أدواراً في مسلسلات خوفاً من أن يطغى ظهوره على الدور الرئيسي، الشخصية الأساسية.

كان لدى المتنبي، صاحب البيت، كما يعلم الخلق جميعاً، من الشوارد ما يكفي ليسهر الناس مختلفين، أو متفقين، حولها من تلك الأيام إلى أيامنا هذه، وربما كان من حقه أن يقول عبارة شعرية مثل «أنام ملء جفوني..»، ولكن أي شوارد للممثل السوري؟! اصبر قليلاً، لن تصدّق أذنيك. قال عبد الكريم، وقد خسر، كما يزعم هو ومذيعته، أدواراً شتى، بمعنى أنه دفع ثمنها، ولا نعرف تفسيراً لهذا الزعم فشبيحة النظام، برتبهم المتعددة، لم يتوقفوا عن الظهور في مسلسلات، انظر سلاف فواخرجي، أمل عرفة، باسم ياخور، أيمن رضا، فايز قزق، شكران مرتجى، أيمن زيدان،.. ثم على من تحسب قصي خولي وتيم حسن؟! الأهم من كل هذا أن زهير ختم حديثه بالقول إنهم ما عادوا يعرضون عليه أدواراً في مسلسلات خوفاً من أن يطغى ظهوره على الدور الرئيسي، الشخصية الأساسية، يعني مثلاً أن يأخذ الضوء من باسل خياط أو عبد المنعم عمايري وتيم وقصي..! تلك هي شوارده إذاً، الممثل مؤمن بنفسه إلى هذا الحد! هذه واحدة من شوارده، ونحسب أن الخلق، منذ انتهت حلقته مع رابعة، سهرانين حولها، يتسلّون، يضحكون، يقهقون من نكتة زهير عبد الكريم.

مصائرنا المتخفية

لو لم تثر أخيراً هذه الضجة الكبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي حول مقدمة برامج سورية سابقة، لما لاحظ المرء أن الإعلامية المعروفة تعاني أي نوع من الاضطراب. ضجيج هائل، انقسم بين متنمرين، ولا تدري لماذا، ومتضامنين مع شخصية كتبت لها الأقدار أن تمر بأزمة نفسية، وكان بديهياً أن يجري الربط بين نظام التوحش السوري، وما نتج عنه من ضحايا نفسيين، ربما بقدر مساو لمختلف أنواع الضحايا، من قتلى، ومعتقلين، وجرحى.

كان بديهياً أن يجري الربط بين نظام التوحش السوري، وما نتج عنه من ضحايا نفسيين، ربما بقدر مساو لمختلف أنواع الضحايا، من قتلى، ومعتقلين، وجرحى.

تحزن بالطبع، تتعاطف، تتضامن، وترثي لحال الإنسان. لحالنا جميعاً، وكيف تختبئ مصائرنا في أمكنة ليست في الحسبان.  لكن الإعلامية السورية تعيش تجربتها بشكل مغاير، سيكون مفاجئاً، حين تشاهد فيديوهاتها الأخيرة، أنها لا تخفي مرضها، بل تشرح لمشاهديها، وتعرض أدويتها وإمكانيات علاجها، بكل مرح، ستجد أنك أمام موهبة (تليق حقاً بأن تعمل ممثلة)، خفة الدم، وإتقان لهجات وقفشات، وتعليقات سياسية لاذعة. كانت أجمل من برامجها المتلفزة، ربما لأنها على سجيّتها، من دون إعداد أو فبركة أو تأطير. ستخفف الفيديوهات شيئاً من قتامة الحزن، وإن كان حظها أن المرض جاء مرحاً راقصاً وفكهاً على هذا النحو، فقد كان حظ الكثيرين مع أمراض أخرى قاتمة، حزينة، ومروعة أحياناً.