حول المصير المأساوي للشاعرين الشابين القتيلين بوشكين وليرمنتوف
علاء اللامي*
عثرتُ في إحدى مكتبات بغداد قبل أشهر على ترجمة جديدة لرواية الكاتب والشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف والتي تعرفنا عليها ضمن قراءات فترة الشباب في ثمانينات القرن الماضي. ولهذه الرواية أكثر من ترجمة؛ الأولى كانت للمترجم السوري المتميز الراحل سامي الدروبي، وهي ترجمة متقنة وأقرب إلى إعادة كتابة الرواية بلغة عربية جزلة ومتينة كسائر ترجماته وأشهرها ترجمة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي عن اللغة الفرنسية، ويبدو أن ترجمته لرواية ليرمنتوف نشرت بعد سنوات من وفاته عام 1976، فثمة طبعة منها صدرت سنة 1984 عن دار رادوغا في موسكو، وثمة طبعة أخرى تحمل اسم “الطبعة الأولى” أيضا للمترجم نفسه صدرت سنة 2011 عن المركز الثقافي العربي “دار نشر مغربية لبنانية”. الترجمة الثانية أجراها إدوار أبو حمرا ولم أطلع عليها، والثالثة وهي الجديدة موضوع حديثنا، وقد ترجمها شاهر أحمد نصر وراجعتها ريم البياتي، وصدرت عن دار آشور /شارع المتنبي سنة 2021، وأغلب ظني أنه ترجمها عن الروسية مباشرة لأنه خريج جامعة الصداقة بموسكو كما تقول سيرته الذاتية، وهي ترجمة جيدة ورصينة ومتينة لغة وأسلوبا، وربما وجدت هناك ترجمات أخرى لا علم لي بها.
أعدتُ قراءة هذه الرواية بمتعة قد لا تقل عن متعة قراءتها الأولى قبل حفنة سنوات ولكنها كانت متعة مشفوعة بشجن الذكريات. لا أريد أن أتحدث نقديا وبشكل مسهب عن الرواية في هذه الوقفة الخفيفة السريعة بل سأتوقف عند حياة مؤلفها القصيرة وقدره المأساوي. وبالمناسبة، فحين طرحت الرواية مترجمة إلى العربية في الأسواق قبل عقود، أخطأت غالبية الناس في توقع مضمونها، وهذا ما حدث حتى في روسيا القيصرية، بلد الكاتب، حين طرحت في المكتبات في أيار 1840، وكان لمؤلفها الذي عُرف شاعراً قبلها، من العمر خمسة وعشرين عاما. أقول؛ أخطأت غالبية الناس في تخمين أو توقع مضمون الرواية الذي أوحى به عنوانها “بطل من هذا الزمان” والذي يوحي لأول وهلة بأنه بطل إيجابي. ولكنه على عكس التوقعات، وكما تكشف الرواية، فقد كان هذا البطل “بتشورين” سلبيا بل ونذلا من الناحية السلوكية الأخلاقية حتى أصبح أنموذج (تجسيدا لظاهرة اجتماعية منتشرة، وتشخيصا لعيوب جيل بأكمله) بعبارة النقاد السوفيتي أندرونكوف. ولكنه، وهنا تكمن عبقرية الشاب المؤلف ليرمنتوف ليس “فردأ مشوهاً في مجتمع فضيل، بل هو صورة لجيل خابت آماله وتملكه شعور بالعجز في مواجهة القمع والفردية الحاكمة، ففقدوا أحلامهم وإيمانهم، فلحقهم العوق الخُلُقي/ أندرونكوف“.
ولكن من هو هذا البطل، وكيف رسم ليرمنتوف شخصيته بهذه الواقعية والدقة: إنه “شاب وسيم ثري ذكي، حاد الملاحظة وذو الثقافة الرفيعة الواسعة، حياته بلا هدف ولا أمنيات، فلا يعرف طعم السعادة لا في الحب ولا في الصداقة… يمضي أفضل سنوات عمره في الجمود والكسل … وتتلاشى بلا جدوى تلك القوى الغنية التي يكتنزها في أعماقه وتظل أحلامه بالمآثر العظمى مجرد أحلام، ولا يحمل للناس الذين يرتبط مصيره بهم غير الهلاك والآلام، فيعيش حياته وحيدا تعيسا. من المقدمة”! ترى أليس هذا النموذج البشري هو السائد اليوم وبعد أكثر من قرنين على ولادة هذه الشخصية الروائية من مخيلة شاعر روسي اسمه ليرمنتوف؟ ألا تكمن هنا بذرة عبقرية هذا الشاعر الرائي؟
عودا إلى ليرمنتوف ومصيره المأساوي، فقد بدأ صاحبنا حياته شاعرا مهما وملحوظا في المشهد الشعري الروسي في القرن التاسع عشر، وكان من الناحية الفلسفية والسياسية تحرريا وتقدميا معاديا بعمق وجرأة للحكم القيصري المطلق. وحين قُتل شاعر روسيا الأول ألكسندر بوشكين والذي كان “أول من دعا إلى الحد من سيادة النبلاء وتقييد الحكم القيصري في روسيا واعتماد النظام الديمقراطي في الحكم”، حين قتل في مؤامرة المبارزة الشهيرة وهو شاب له من العمر سبعة وثلاثون عاما، رثاه ليرمنتوف بقصيدة عنوانها “مقتل شاعر”، اتهم فيها القيصرية علانية بأنها كانت وراء تدبير المبارزة التي أودت بحياة هذا الشاعر التحرري الكبير، فصدر ضده – ضد ليرمنتوف – حكم بالنفي سنة 1837. وفي أوائل سنة 1840 تمكن أعداء ليرمنتوف من تدبير مبارزة مكيدة شارك فيها الشاعر فحكمت عليه المحكمة بالنفي للمرة الثانية، وهناك في منفاه قتل في مبارزة أخرى يوم 27 تموز سنة 1841 ولم يناهز السابعة والعشرين من عمره/ من المقدمة“.
ملاحظة أخيرة: في هذه الرواية كان ليرمنتوف قد سبق الروائيين في جيله وتمكن من تقديم رواية جديدة على الصعيد الفني من حيث السيناريو المعقد وتعدد الأصوات “الرواة” وهي تجربة لم يسبقه إليها أحد في القرن التاسع عشر على حد علمي.
إنها رواية حية وملهمة وجديرة بالقراءة فعلا مهما تقادمت، فالأعمال العبقرية الرؤياوية خالدة بطبيعتها ولا عمر لها!