دردشة مع نوري عبد الرزاق (3)
عبد الحسين شعبان
على سبيل الاستهلال
ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.
بوتين وأوكرانيا
برأي نوري عبد الرزاق: أخطأ فلاديمير بوتين الزعيم الروسي حين تصوّر أن ردّ فعل الغرب سيكون مثلما حصل في العام 2014? حين استعاد شبه جزيرة القرم (فتلك مسألة أخرى لأنها بالأصل كانت روسية، وتبرّع بها خروتشوف الأوكراني إلى أوكرانيا العام 1956? وفي تلك الفترة كانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي).
اداء الجيش
تغيّر الأمر اليوم وزادت حدّة الاستقطابات، فالغرب يدعم أوكرانيا بمليارات الدولارات والأسلحة المتقدّمة، كما دخلت الولايات المتحدة بقوّة في الملعب الأوكراني – الروسي. وتوحّدت أوروبا بوجه روسيا واستعاد حلف الناتو حيويته وزاد عدد أعضائه من 30 إلى 32 عضوًا بانضمام السويد وفنلندا، كما كان أداء الجيش الروسي قاصرًا والأسلحة التي استخدمها قديمة، وإذا كان ثمن النصر باهظًا، فثمن الهزيمة سيكون أغلى بكثير، فلا أوكرانيا والغرب يمكن أن ينتصرا في هذه المعركة، ولا روسيا يمكن أن تنهزم أو تنكسر حتى وإن على حساب الإطاحة ببوتين. والثمن في كلتا الحالتين سيكون مؤلمًا، فأوكرانيا تمّ تدميرها مع وجود نحو 8 ملايين لاجئ ونازح، وروسيا أُنهكت واستُنزفت وهي غير قادرة على تحقيق النصر السريع الذي راود بوتين.
قلت له هل تتفّق مع كسينجر من أن أوكرانيا شديدة الأهمية لروسيا، ولا بدّ من عدم استفزازها؟ فحتى بعد اندلاع الحرب لا بدّ من البحث في تفاهمات وتسويات سلمية، تحفظ ماء وجه روسيا وتحافظ على أوكرانيا مع تقديم بعض التنازلات، والمقصود بذلك المناطق التي يشكّل الروس أغلبية فيها والتي احتلتها روسيا. المقاطعات الأربعة وهي (لوغانسيك ودونتيسك وزاباروجيا وخيرسون)، وكانت الحرب قد استهدفت أوكرانيا عمومًا وليس إقليم دونباس الذي يشمل المنطقتين الأوليتين وأظنّ أن مثل هذا الرأي هو الأقرب إلى الواقع وإلى توازن القوى Balance of Power .
قال كان كسنجر ينظر بعيدًا إلى المشكلة الأوكرانية، إذْ لا يمكن لموسكو قبول وجود عسكري لحلف الناتو على الأراضي الأوكرانية، فأوكرانيا هي الطريق السالك إلى أوروبا، إضافة إلى ما يجمع البلدين من علاقات تاريخية، ناهيك عن موضوع الطاقة والقمح. ولذلك فإن استبدال الولاء من روسيا إلى الغرب أثار الشعور بالعداء وحرّك دوافع الإمبراطورية الروسية القديمة، ناهيك عن نزعات قومية روسية.
وإذا كان الجيش الروسي قد انسحب من بعض المناطق، فإنه يريد أن يُعزّز دفاعاته، وجدير بالذكر أن الناتو لديه قواعد عسكرية ومنصات صاروخية في بولونيا ولتوانيا ولاتفيا، وكان يفكّر بإقامة قواعد عسكرية ثابتة في دول البلطيق وبعض دول أوروبا الشرقية الأخرى. وقد استدعت الحكومة الروسية الاحتياط وبعد انتهاء التدريبات، ستُلحقهم بالجبهة في فصل الشتاء. لم يستعمل الروس السلاح المتطوّر، ولديهم دبابات ( T – 90) وهي من الجيل الثالث للدبابات المتطوّرة واستُمدّ تصميمها من الدبابة (T – 72) الشهيرة. قلت له لكن الأوكرانيين يحاربون على أرضهم ومعهم قوى كبرى وتضامن عالمي، فعلّق نوري ان تدريبات ا? CIA مستمرّة منذ العام 2014 للأوكرانيين، ولذلك كان الناتو يريد نصب قواعد صاروخية على الحدود الأوكرانية – الروسية، الأمر الذي استنفر الروس، ولم يعد بإمكانهم غضّ النظر عن هذا التهديد المباشر.
وحاولنا قراءة موقف الحزب الشيوعي الروسي الذي ينسجم مع الشعور القومي العالي للروس عمومًا، لكن المسألة كلّما طالت كلّما تعقّدت أكثر، خصوصًا انعكاساتها على الأزمة الداخلية في روسيا، فإذا كانت الحرب توحّد القوى لحين، فإنها يمكن أن تباعد المواقف في حالة عدم حصول نصر سريع أو استمرارها بما يؤدي إلى المزيد من الخسائر البشرية، ناهيك عن تعمّق الأزمات الاقتصادية والمعيشية.
وقلت له: حسب السياسي البريطاني وليم غلادستون (1809 – 1898) والذي شغل رئاسة الوزارة أربع مرّات: إن الحرب توحّد الأمّة خلف حكومتها لمدةّ 18 شهرًا، أمّا إذا زادت عن ذلك فإنها تؤلّبهم ضدّها، وهو أمر يمكن ملاحظته عبر التاريخ. وكان رأي نوري أن ثمّة تململ بدأ داخل روسيا، وأن الغرب يحاول تغذيته، لذلك فهي تريد الوصول إلى حلول سلمية تضمن لها بعض المكاسب التي حقّقتها. وأظن أن لا سبيل للحل إلّا بالمفاوضات والحوار والتفاهم، بل إن هذه المفاوضات تجري منذ حين سرًّا في اسطنبول، وأن الولايات المتحدة ترغب فيها أيضًا، ناهيك عن خيار أوروبا التي أصبحت معانتها شديدة بسبب استمرار الحرب باستثناء زيلينسكي. وماذا عن المفاوضات؟ هل ستفضي إلى نتائج قريبة؟ وهل ثمة ما يلوح في الافق؟ علّق نوري بأن المفاوضات السريّة قائمة فعلًا وكانت هناك أكثر من جولة في اسطنبول ، والأمريكان شجعّوا عليها وأوروبا تحتاجها للاتفاق على حلّ سلمي، لاسيّما الارتفاع الجنوني في أسعار المازوت والبنزين والكهرباء، والشتاء يدقّ على الأبواب.سألني عن الوضع اللبناني وأزمة الرئاسة والوضع الاقتصادي ونفوذ إيران وأموال المودعين… قلت له كما هو معروف، الأزمة مستفحلة وحركة تشرين 2019 لم تستطع أن تحقّق أهدافها على الرغم من الموجة البشرية الهائلة التي شاركت فيها وقد تزامنت مع حركة تشرين العراقية التي هي الأخرى أجهضت بعد إغراقها بالدم، وإن كانت الجذوة لم تنطفئ في كلا البلدين بسبب استمرار الأزمة واستشراء الفساد وسوء الإدارة والانقسامات الطائفية، وأموال المودعين في خبر كان، وفشل البرلمان اللبناني في انتخاب الرئيس لعدّة مرّات، والمعادلة الصعبة في لبنان هي حزب الله الذي تستهدفه واشنطن، على الرغم أن لا حلّ دونه، وهو مدعوم إيرانيًا ولديه علاقات قويّة مع سوريا، بل أنه أرسل فصائل منه للدفاع عنها، وهو جزء من النسيج اللبناني. العرب رفعوا أيديهم عن لبنان، ولا شكّ أن المعجزة وحدها هي التي يمكن أن تنتشله من وضعه الحالي، بسبب الانقاسمات الحادة والتمترسات الطائفية واستشراء الفساد والمحسوبيات والمنسوبيات التي نخرت جسم الدولة، فلا المشروع الفرنسي ولا صندوق النقد الدولي قادران على وضع حدّ للتدهور، والعرب أداروا الظهر عنه.
ولاء القوميين
هل ولاء حزب الله أيديولوجي أو طائفي لإيران؟ سألني نوري، أجبته: مثل ولاءنا للاتحاد السوفيتي سابقًا أو ولاء القوميين لعبد الناصر أو البعثيين لسوريا أو العراق حسب توجهاتهم أيام زمان. علّق نوري قائلًا أن اليسار لم يعد مؤثّرًا، بل لا أحد يحسب له حساب في المعادلة، هناك دول صاعدة مثل السعودية، وأن ما يحصل فيها من تغيير بما فيه في السياسة الدولية لا بدّ من التوقف عنده. (وقد كان انعقاد القمّة العربية الصينية التي حضرها الرئيس الصيني شي جين بينغ حدثًا كبيرًا، 7 – 9 كانون الأول / ديسمبر 2022)? فضلًا عما تردّد من احتمال انضمام السعودية إلى البريكس . العالم كلّه ينقلب، وخاطبني: لاحظ مدينة نيوم الجديدة ، حيث يبلغ إجمالي حجم الاستثمار فيها حوالي 500 مليار دولار أمريكي ، وهو مشروع استراتيجي لـ “رؤية المملكة العربية السعودية 2030” . وتعتبر “معجزة” حقيقية حسب آراء خبراء محايدين، فضلًا عن التقدّم في ميدان التعليم والعلوم والتكنولوجيا، وحتى المرأة بدأت تحصل على بعض حقوقها، ولم يعد هناك ما يعيق الطور الرابع للثورة الصناعية، فمن كان يتصوّر ذلك قبل عقدين من الزمن؟