ليلتي مع البوم!
حين أغادر بيتي في باريس إلى بيتي في بيروت أقطع التيار الكهربائي عن البيت خلال غيابي خوفاً من تماس يسبب حريقاً. ولأن الكثير من البريد يصلني من كتب ضخمة وموسوعات كهدايا ورسائل، قال لي أحد حراس المبنى حيث أقيم، إنه ليس في مكتبه أي مكان يتسع للبريد الذي يصلني حين أغيب طويلاً. وقلت له إن بوسعه استعمال مفتاح بابي الموجود عنده لوضع بريدي على طاولة صغيرة في مدخل بيتي.
ومن العادات في باريس أننا نترك نسخة من مفاتيح بيتنا في خزانة خاصة بسكان المبنى لها مفتاح عند (الناطور) لأنه حين يتم رش المبنى بالمبيدات مثلاً يفعلون ذلك في شقتي لأن الحشرات (الصراصير مثلاً) تنتقل من شقة إلى أخرى وقت رش المبيدات ولا بد من مكافحتها في كل شقة. وقلت لحارس المبنى أن يضع لي بريدي في مدخل بيتي على الطاولة الصغيرة. وقبل أن أغادر البيت للسفر أضغط زراً لقطع الكهرباء عن البيت كي لا يشب حريق في بيتي لعطل ما، وأُشعل المصباح اليدوي الصغير حين أعود بعد السفر لإعادة التيار الكهربائي قبل أي شيء آخر.
البومة في انتظاري
لست وحدي من عشاق البوم، ويشاركني في ذلك العديد من الأدباء الراحلين ومنهم الدكتور غازي القصيبي. وحين كنت أقيم في جنيف أرسلت له هدية هي عملة ورقية سويسرية عليها صورة بومة وبعض الطوابع التي تحمل صوراً للبوم أيضاً (من محبي البوم الأدباء توفيق وصايغ رياض الريس وسواهما كثير لا مجال اليوم لتعداد أسماء من أعرفه منهم).
وأعود للموضوع الرئيس في «لحظة حريتي» هذه. ليلة عودتي إلى باريس من بيروت، أهملت إشعال المصباح الكهربائي اليدوي لأنني أعرف بدقة مكان الزر الذي يعيد الكهرباء إلى البيت، ومشيت في المدخل عدة خطوات حين تعثرت بشيء ضخم وسقطت على أرض المدخل في الظلام الدامس وكانت ركبتي تؤلمني. تماسكت. أشعلت مصباحي اليدوي الكهربائي ووجدت أن ما تعثرت به هو تمثال ضخم من الخشب لبومة!! البومة ضخمة منحوتة في جذع شجرة أي في قطعة خشبية واحدة، ويبدو أن حارس المبنى الذي يحمل البريد إلى مدخل بيتي وجدها أثقل وزناً من وضعها على الطاولة ولم يخطر بباله بأنني سأتعثر بها وأقع على الأرض!
أعيش مع مئات البوم
وقرأت الرسالة الملصقة على البومة التي كادت تكسر لي رجلي فوجدتها هدية من الدكتور السفير -رحمه الله- غازي القصيبي. وسقوطي ليس سببه شؤماً، بل إهمالي!
أعود إلى البوم الذي يتشاءم منه الكثير من العرب وأذكر أنه محبوب جداً في أقطار أخرى كاليونان مثلاً، حيث كان يعتبر منذ قرون «ربة للحكمة». وقد كتبت عن ذلك مطولاً في كتابي الذي أهديته إلى البوم! أما تماثيل البوم في بيتي فبعضها من الرخام المنحوت أو المرسوم على أكواب الماء أو الكريستال أو الفضة وغير ذلك كثير من هدايا ومشتريات. وأينما سافرت كنت أشتري بومة تقول لي: خذيني لأنك تحملين لي الحب!
وقد أفرزت للبوم عندي خزانة شفافة ووضعتها قرب إحدى نوافذ بيتي لتستمتع بمنظر نهر السين. وأنا أعرف أنني حين أنام تستيقظ تماثيل البوم عندي وتطير في فضاء باريس ثم تعود مع الفجر قبل أن أستيقظ.
تمثال من غسان كنفاني: لحظة حب!
ليلة عودتي من السفر، لم أذهب إلى النوم، بل تأملت بوماتي وكانت كل بومة تذكرني بلحظة اشتريتها وفي أي مدينة أو بمن أهداني إياها.
ولدي من مترجمتي البولندية هدية بومة وبعدها من كل مترجم لي بومة ولدي (عشرون بومة لأنني صرت مترجمة إلى عشرين لغة وبومة من كل مترجم أو مترجمة كهدية). هذا تمثال من السيراميك لبومتين متعانقتين بحنان وقد أحنت كل منهما رأسها للأخرى في لحظة حب. وهي هدية من غسان كنفاني وهذه بومة منحوتة في الرخام الأبيض اشتريتها وزوجي من متحف «المتروبوليتان» في نيويورك (يوم 15ـ5ـ95). فأنا أكتب خلف بوماتي تاريخ حصولي عليها ومن الذي/التي أهدتها لي فلدي حوالي 500 بومة. هذه بومة هدية من أحمد بهاء الدين وزوجته الرائعة. وهذه بومة محفورة في العاج كقلادة اشتريتها من بانكوك. وهذه بومة اشتريتها وزوجي من إحدى البسطات في ألمانيا يوم وصولنا إلى فرانكفورت. وحكايا بوماتي يمكن أن يضمها كتاب!.. وبينها بومة مرسومة على قشرة بيضة اشتريتها وزوجي ونحن نتسكع في بعض أسواق باريس المسقوفة الخاصة بالأعمال الفنية. وهذه بومة من الفراء وأخرى بومة هاري بوتر!
بلقيس الراوي قباني
صديقتي العراقية الحميمة الراحلة زوجة قريبي نزار قباني حملت لي هدية في عيد ميلادي هي 6 أكواب من الكريستال المنحوت بصورة بومة. ومنذ رحيلها لم يطاوعني قلبي على شرب حتى الماء منها، فقد كانت أختاً غالية وكم أحزنني الانفجار في السفارة العراقية في بيروت الذي ذهبت ضحية له! وهذه بومة رائعة من ابنة أخي كـ»إسوارة» وأخرى من الراحل الصحافي الكبير أسعد المقدم حملها لي زوجي حين التقاه في بلد عربي..
كتابي ع.غ. تتفرس أهديته إلى البوم واعتبرته رمزاً صغيراً لضحايا بعض الأفكار السائدة والموروثة التي تحل في نفوس البعض محل الحقيقة!
التشاؤم من البوم
كنت في مطار باريس بانتظار إقلاع طائرتي إلى بيروت، ولأنها تأخرت جلست طفلة لعلها في الثالثة من عمرها وابنة لإحدى المسافرات مثلي، جلست على أرض المطار تبكي بصوت مرتفع وأمها تقول لها بصوت مرتفع: اسكتي يا بومة.. اسكتي يا بومة.
وهكذا غرست الأم في نفس طفلة الكراهية للبوم منذ طفولتها.. كأن الكثير منا في بلادنا العربية يغرسون في نفوس أطفالهم كراهية البوم الذي يشبه صوته النواح المزعج.. كصوت هذه الطفلة الضجرة من الانتظار في المطار.. ولكن البوم بريء من ذلك. هذا ما تقوله لي بومة لطيفة في خزانتي الشفافة.. والدين الإسلامي حرم «التطير والتشاؤم» من طائر البوم «تطير». وأعرف أنني حين أذهب الآن إلى النوم منهكة، وبوجع في ركبتي بسبب سقوطي على هدية د. غازي القصيبي، ستستيقظ المئات من البوم في خزانتي الشفافة ويطرن ليلاً في الظلام ويوقظن تماثيل شوارع باريس للطيران معاً في الليل.. ثم يعود الجميع إلى مكانه حين أستيقظ.. وتستيقظ باريس!