دردشة مع
نوري عبد الرزاق
عبد الحسين شعبان
)الحلقةالرابعة)
على سبيل الاستهلال
ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.
صداقات سودانية
بعد أن عرف أنني قادم من الخرطوم في زيارة أكاديمية شملت إلقاء محاضرات في 4 جامعات ومراكز أبحاث، وهي الزيارة الثانية خلال هذا العام والتي شملت فاعليات وأنشطة سياسية رسمية وغير رسمية، إضافة إلى نخب ثقافية وفكرية وإعلامية يزخر بها هذا البلد العريق المعتز بثقافته العربية الإسلامية، إضافة إلى انتمائه للفضاء الأفريقي، استعاد معي نوري علاقاته السودانية، وبدأ بحسن سنادة صديقنا المشترك وفاروق أبو عيسى والخلاف داخل الحزب الشيوعي السوداني بين معاوية ابراهيم والتيار السائد الذي قاده عبد الخالق محجوب، لاسيّما في الموقف من سلطة النميري؛
وقلت له هل يمكن مقاربة تلك الخلافات بما حصل داخل الحزب الشيوعي العراقي، في عهد عبد الكريم قاسم، والموقف من سلطته، بين سلام عادل وجمال الحيدري عضو المكتب السياسي والغالبية من قيادة الحزب من جهة وبين كتلة الأربعة المتمثّلة ﺑ زكي خيريوبهاء الدين نوري وعامر عبد الله، وإنْ حُسب محمد حسين أبو العيس على الاتجاه المعارض لسلام عادل، لكنه لم يكن مع الثلاثة الآخرين في المهادنة مع سلطة عبد الكريم قاسم، وظلّ يدعو إلى تغييره متأثرًا ومهتديًا بما أنجزه لينين وأصرّ عليه بتغيير كيرنسكي الذي قاد ثورة شباط / فبراير 1917 للإطاحة بالقيصر، ثم جرى الإجهاز عليه بالتحضير للانتفاضة المسلّحة التي قادها البولشيفك والتي عرفت ﺑ “ثورة أكتوبر” في العام ذاته. (7 تشرين الثاني / نوفمبر 1917) حسب التقويم الجديد.
مسألة السلطة
وكان رأيه أن الأحزاب الشيوعية العربية وقياداتها عمومًا ظلّت تؤرقها مسألة السلطة، ولم يكن لها استراتيجية بعيدة المدى للوصول إليها، فأحيانًا فكّرت بطريقة استعجالية في الوصول إليها، فانتحرت، وأحيانًا أهملت الوصول إليها بزعم عدم توفّر الظروف الموضوعيّة فتبدّدت وتآكلت، وهي مسألة عانينا منها في العراق، وخاطبني:لاحِظ التحالفات الفاشلة التي دخلناها باستثناء جبهة الاتحاد الوطني العام 1957، أما بعد ذلك لاسيّما جبهة العام 1973 فبقينا نراوح، نقدم خطوة ونؤخر خطوتين، إلى أن اضطررنا إليها بعد إضعافنا وشنّ حملة اعتقالات ضدّنا فوافقنا بشروط أدنى مما كان يمكن أن نحصل عليه قبل توتّر العلاقات وقبل بعض المزاودات، وأنت تعرف ذلك من مفاوضات الطلبة ومجالات أخرى العام 1969، فقد رفضنا عرضًا مقبولًا ضمن توازن القوى، ثمّ أخذنا نبحث عمّا هو أدنى منه بكثير، ولكن بعد فوات الأوان، والأنكى من ذلك أننا أقدمنا على تجميد (حل) منظماتنا عندما جرّمت السلطة العمل خارج المنظمات الرسمية القائمة، وإلّا فإن أحكامًا غليظة يمكن أن تلحق بالمنتسبين خارجها. وأضاف: لاحظ الخفّة اليوم في التحالفات، وهو أمر أقرب إلى تجربة طفولية.
وقال نوري أن ذلك نوع من التخبّط وعدم إدراك اللحظة التاريخية، فإن استعجلنا وقعنا في مطب حرق المراحل وتضخيم الذات وعدم إدراك التعقيدات الكبيرة وتوازن القوى على الصعيد الداخلي والدولي وأن تأخرنا في أخذ زمام المبادرة فإننا سنتركها للخصم الذي يمكن أن ينزل أشد الطعنات بنا مستغلًّا حالة التراخي والميوعة، وهو ما حصل لنا في 8 شباط / فبراير 1963، وذلك نقيضًا لحالة التشدد وعدم المرونة.
الفرصة تأتي مرّة واحدة ولن تعود أو تنتظر، وللأسف لا يوجد استراتيجيون لدينا، ومن كان يمسك بمقاليد الامور ليس لديهم مثل هذه المعرفة، ناهيك عن الحكمة وبُعد النظر.كان ذلك قد وسّع من إطار الدردشة، وحين لاحظت استعداده للحوار عقّبت عليه: لا يكفي أن تقرأ كتابًا بالاستراتيجيا أو تكون مسؤولًا إداريًا لتصبح قائدًا، فالقيادة فنّ وعلم ومعرفة وشجاعة. و“الحرب امتداد للسياسة، لكن بوسائل أخرى“ حسب كلاوتزفتز المنظّر البروسي لفنون الحرب والقتال والسياسة. وهدف أي حرب هو جعل العدو ينفّذ إرادتك.
فقال نوري: طبّق هذه المسألة علينا. صحيح أننا نتحدّث اليوم ونحن في حالة استرخاء، ومن يكون مسؤولًا لا بدّ أن يعي ذلك، ويدرك التعقيدات، والقيادة في النهاية قدرة على إدارة الصراع. علينا إجراء مراجعات والاعتراف بالأخطاء ومن موقع مسؤولية كلّ واحد منّا. قلت له كان الراحل حسين سلطان كثيرًا ما يردّد أننا نضيّع الفرصة تلو الفرصة بانتظار فرص أفضل، لكنها لن تأتي، وهكذا قضينا الوقت ننتظر الفرصة الموعودة.
وتناولنا دور فاروق أبو عيسى لاحقًا في اتحاد المحامين العرب وفي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وقدزاملته لدورتين، وكذلك في المعهد العربي لحقوق الإنسان، حيث كنّا نلقي فيه محاضرات سنويّة لنحو عقد من الزمن، وساهمت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في تأسيسه وكذلك اتحاد المحامين العرب والمنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان برئاسة حسيب بن عمّار.
وكنت قد كتبت عن عبد الوهاب سنادة شقيق حسن سنادة، ، رئيس تجمّع المهنيين الذي تعرّفت عليه خلال حملة التضامن مع الشعب السوداني التي بدأناها في براغ مع الصديق كمال عبد الكريم الميرغني ضد مجزرة النميري بحق الشيوعيين بعد فشل حركة هاشم العطاالعام 1971، وعدت والتقيت به في لندن، حيث ضممته إلى المجلس الاستشاري للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكلانا أجرى مراجعات ضرورية. ثم جئنا على ذكر ابراهيم زكريا القيادي في الحزب الشيوعي السوداني وممثله في اتحاد نقابات العمال العالمي، وقد ترافق مع آرا خاجادورالذي كان ممثّل الحركة العمالية العراقية فيها.
واستذكرنا اللقاء مع الطيّب أبو جديري بدعوة من مهدي الحافظ في براغ التي وصلها بعد فشل حركة هاشم العطا، وكان قد عُثر على اسمه في ورقة في جيب الشهيدعبد الخالق محجوب القائد الشيوعي الذي أعدمته سلطة النميري في العام 1971، والورقة تحتوي أسماء الوزراء المقترحين، وأمام وزارة العدل كتب محجوب بخط يده يُسأل أبو جديري، وهذه الكلمة كانت كافية لكي يلاحق الرجل الذي اضّطر إلى الهرب ووصل في حينها إلى براغ عبر إحدى الدول الأفريقية.
قصة قاسم أمين
رويت له كيف أن قاسم أمين الشخصية النقابية المعروفة استأنس برأيي بخصوص حضوره للمشاركة في مؤتمر انعقد في بغداد إثر تأميم النفط ، وكانت دعوة قد وصلته حينها إلى براغ، فشجّعته على ذلك، خصوصًا وأن تلك الخطوة الرائدة والشجاعة تستحق التضامن والدعم، وحين سألني بماذا توصيني سياسيًا، قلت له الانتباه إلى التصريحات، فأحيانًا يجري تضخيمها أو تركيبها بما يسبّب إحراجًا لبعض الضيوف، وهو ما كنت قد سمعته كشكوى من أكثر من شخص.
وكنت قد تعرّفت على قاسم أمين بواسطة حيدر ابراهيم الأبجر، صديقي السوداني وجاري وكنّا ندعوه “عمّك قاسم“، وبقيت أسأل عن الأبجر خلال زياراتي إلى السودان ولم أهتدي إليه حتى على الرغم من الأصدقاء المشتركين الذين يعرفونه، وقد ذهب قاسم أمين إلى العراق برفقة ابراهيم زكريا، وقد صادف أن جاء أحد الصحافيين لمقابلة ابراهيم زكريا الذي توجّه إلى بيروت وبحضور قاسم أمين الذي مكث بعده بيومين في بغداد، فنشر الصحفي تصريحًا لزكريا، اعتبر فيه حزب البعث رائدًا على مستوى العالم الثالث وتجربته تستحق الدراسة والاقتداء، في حين أنه قال أن خطوة تأميم النفط رائدة، الأمر الذي دفع قاسم أمين أن يرفض إعطاء تصريح إلى الصحفي ذاته الذي جاء لمقابلته بعد يومين عند سفره في المطار كما حصل مع زكريا، بل هدّده بأنه إذا نشر أي شيء سيكذّب ما جاء على لسان زكريا وما سيأتي على لسانه، وقد روى لي تلك القصة بعد عودته من بغداد، وحمل لي حينها قنينة عرق عصرية، وكان معجبًا ببغداد وبكرم الضيافة وبالمنجزات التي تحقّقت، دون أن يساوره الوهم في حالة نكوصها وتدهور علاقات البعثيين بالشيوعيين، انطلاقًا من تجربة النميري مع الحزب الشيوعي السوداني.
وسألني نوري عن فتحي الفضل، فأخبرته أنه ما يزال في براغ، وقد أصبح عضوًا في المكتب السياسي والناطق الرسمي للحزب الشيوعي السوداني، وهو يتردّد على السودان كثيرًا، وفتحي الفضل شغل بعد مهدي الحافظ منصب السكرتير العام لاتحاد الطلاب العالمي في المؤتمر العاشر الذي انعقد في براتسلافا مطلع العام 1971، وحضره نوري بصفته ضيف شرف، وحضرته باسم الوفد العراقي الذي ضمّ ناظم الجواهري وخليل الجزائري وعدنان الجلبي، وفي هذا المؤتمر تعرّفت على تيسير قبّعة بواسطة نوري عبد الرزاق. واستذكرنا مروءة تيسير وشجاعته وشهامته، خصوصًا في ظروف صراعنا الحزبي في الثمانينيات، وكان قبعة قد خرج لتوّه من السجن في الأرض المحتلّة، وقد رويت قصّته في مقالة لي بعنوان “تيسير قبعة: غيمة فضية في سماء الذاكرة” والتي نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين بتاريخ 29 حزيران / يونيو و2 تموز / يوليو 2016.
