التطرف، منتهى الهُويات القتيلة؟
ندرك جيداً أن مجتمعات ما بعد الحداثة Post-Moderne، لا تتحرك فعلياً ولا تتطور، دون تكسر للبنيات التي أصبحت تقليدية ومعطّلة، والانتقال نحو آفاق جديدة تسمح للبشرية بفتوحات جديدة. الإشكال الصعب الذي يُطرح في هذا السياق هو كيف نوفق بين ما بعد الحداثة وهزاتها من جهة، والحفاظ على البلدان الهشة من الاندثار والزوال. أي قنوات تحفظ للبلدان الضعيفة وحدتها وقوتها الداخلية وطاقتها الخلاقة بدل تدميرها وتشتيتها؟ لأن فعل ما بعد الحداثة تحركه قوى عظمى أيضاً، وفق مصالحها. تحطيم العراق لم يكن الغرض من ورائه دمقرطة المجتمع العراقي الذي تكلس سياسياً في الفترة الصدّامية، ولا جر الآلة العسكرية العراقية النووية نحو السلام، التي اتضح فيما أنها أكبر كذبة؛ إذ لم توجد ولا ذرة واحدة خارج المدار الذي سطروه سلفاً. لم تسلم الهوية/ الهويات من هذا التدمير المبرمج الذي عطل الفاعليات وضيَّق من مداها وحصرها في دائرة قاتلة للهوية نفسها، بحيث أصبح التفكير في الأنا الضيقة هو الأساس بدل الأنا الواسعة، لأن الأنا الممتدة ماتت أو اضمحلت، أو هي في طريقها إلى ذلك في الدولة الوطنية l’Etat Nation ، بشكل يكاد يكون قدرياً ومن خلال التفكيك المتواتر للبنيات المتوارثة حتى تلك الحافظة للمجتمع، وفق منظورات تصنيع العالم القديم/الجديد، عالم الهيمنة الأحادية المطلقة. الأرضية لذلك كانت مهيأة منذ عشرات السنين، وربما منذ قرون. هوية مداسة ومقتولة، وغير معترف بها، أدرجت ضمن هوية الهيمنة الكلية، أو الغالبة، دون اعتراف بها.
تعودنا أن نقول الجمهورية الإسلامية الموريتانية دون أن تُعطي أي قيمة للديانات الأخرى أو العبادات المختلفة، التي لها حضور تحت-أرضي في المجتمع. أو نقول الجمهورية العربية السورية ولا ننتبه أنه ليست سوريا كلها عربية (العنصر الكردي، الأرميني، الشركسي، التركي إلخ…) والأمثلة كثيرة في العالم العربي وفي غيره. لا نستفيد من المجتمعات الأخرى التي عانت بل ودمرت نفسها بنفسها بسبب هذه المعضلات الهوياتية. طبيعي أن تظهر الهويات الجديدة التي كانت صغيرة قبل فترة، رافضة لكل الأشكال السابقة، تبحث لها عما يجعلها تنفصل، في ظل مناخات دولية مناسبة لها تريد استغلالها حتى النهاية.
متى تصبح الهويات قتيلة إذن؟ بالضبط في الحالة التي ذكرتها. عندما تجد نفسها ضمن دائرة تضيق عليها باستمرار ولا يُعترف لها بأي حق: حق الظهور إلى العلن. الهوية العربية؟ الإسلامية؟ في أوروبا؟ داخل سلسلة من الصعوبات التي بدل تفكيكها، يتم اللجوء إلى الاختزالات الكثيرة التي لا تساعد مطلقاً في فهم الظاهرة. ما معنى أن تكون مسلماً في أوروبا مثلاً؟ أن تمارس طقسك الديني؟ ينشأ ذلك كله داخل سؤال كبير: هل إسلام الصيني الفرنسي هو نفسه إسلام الهندي؟ الباكستاني، البنغالي، العربي والأمازيغي المغاربي؟ الإفريقي؟ الإسلام السني أم الشافعي أم المالكي أم الحنبلي؟ وكل «إسلام» نبت داخل معتقدات وأساطير وثقافات متأتية من بعيد ولها تأثيرات عميقة في المعتقد والوجدان التي لها وزن كبير على فهم الدين وفق المعتقدات التي لا يمكن الانفصال عنها. في وقت يبدو فيه الختان النسوي ضرورياً دينياً «للتحكم في رغبات المرأة الجنونية» وهو معتقد أقدم من الإسلام، يبدو الأمر مساً من الجنون في «الإسلام المغاربي» مثلاً. وحيث يبدو الزواج بأربع نساء محللاً ومستحباً، بدون شروط ولا ضوابط، تمنع القوانين ذلك في أمكنة ثانية. كيف يمكن لهذه الهوية أن تجد كل تعبيراتها المعقدة في البلد الواحد، إذ لا يمكن مثلاً بناء مسجد أو معبد في كل مكان حيث تكون المجموعة البشرية. أمر مثل هذ يحتاج إلى تفكير وتنظيم حقيقيين؟ الدولة العلمانية غير معنية بتشييد الأماكن الدينية، سيقتصر ذلك على المجموعات القوية مادياً، الإسلام السني مثلاً. يمكن للمسلمين بناء مساجد مفتوحة على بعضها سنية وشيعية، ويترك لها تسيير شؤونها بإيجاد وسائط ممكنة.
وإذا كانت المجموعة المتمركزة في مكان معين بكثافة وتملك المال الكافي، يمكنها أن تبني معبدها أو مسجدها وفق خطط مسبقة للدولة المنظِّمة. لا أعتقد أن أمراً مثل هذا سيضر بالبلاد التي يعيش فيها المواطن حياته ووفق معطيات البلاد الثقافية وقوانينها. وهذا يقتضي تفهماً كبيراً يصبح في المسجد غير مخيف، ويُنظر له كما ينظر إلى الكنيسة أو الكنيس اليهودي، أو المعبد البوذي. طبعاً مازلنا بعيدين عن هذه الحالة الافتراضية، واستيعابها في تعددها يقتضي فهماً آخر للدين غير ذاك الموجود اليوم الذي كثيراً ما يميل نحو الاختزال. هذا يتسبب في خوفين هوياتيين؛ الخوف من الاضمحلال والموت والاندثار، أو وضع الهوية نفسها مثار تساؤل الأسبقية لمن للهوية أم للمواطنة: هل أستطيع أن أكون فرنسياً أو أمريكياً أو بريطانياً أو برتغالياً أو إيطالياً أولاً، ثم بعد ذلك تأتي الهوية الدينية مسلماً مثلاً. كيف يتحول الدين إلى حالة توازن تضمن الوطنية ولا تنفيها. وهل يمكن الفصل بين الدين والوطنية، السؤال الكبير الذي يطرحه اليوم من يعيش في فرنسا داخل شبكة من المسبقات: كيف أكون فرنسياً كاملاً ولا أحاكم من خلال اسمي أو هويتي الدينية التي تتحول إلى بعبع مخيف يلغي الوطنية كلياً ويحول الفرنسي المسلم إلى فرنسي مشكوك فيه؟ ويعيش طقسه الديني الجماعي في قبو تحت بناية قديمة، بجانب قبو آخر يعيش فيه مهربو المخدرات. التطرف الهوياتي ينشأ داخل تلك المغارات بدل مساجد محترمة ومكشوفة للعيان.
يجد هذا المواطن الفرنسي نفسه في دائرة القلق على هويته وهوية أولاده، ويبدأ في عملية البحث عن الحلول الممكنة فردياً؛ تهجير أبنائه، تزويجهم بما يضمن الحفاظ على الهوية، البحث عن المدارس الدينية التي لا تربي المواطنة والدين في كثير من نماذجها، بل تربي التطرف والكراهية. بدل ما تصبح الهوية قوة دافعة تتحول إلى شطط قد يعمق حالة الشقاق الكبيرة والشرخ الداخلي بين المواطنة والهوية التي تجف أيضاً وتيأس مع الوقت. وتتربى داخلها العدوات الخبيئة وتصبح الوطنية غير المعترف بها كفراً ورفضاً تنجر عنه نتائج شديدة الخطورة، ومنها رفض المجتمع الذي يعيش فيه، كلياً. ويعيش هذا المواطن داخل هوية ممزقة تتشكل بصعوبة دفاعاً عن وجودها ومواطنة افتراضية لا يلمسها في حظوظ العمل، وفي المساواة والحقوق، وغيرها.
يصبح انتقال الهويات من القتيلة إلى القاتلة نتيجة طبيعية لمجمل هذه الحالات. الهويات لا تصبح قاتلة هكذا، ولكن حين يمسها اليأس بعد أن تكون قد تعرضت لعمليات طحن تمنحها كل مبررات الانتقال الخطيرة. لا يمكن أن نداوي المرض وحده، ذلك تسكين مؤقت للآلام، ولكن بالتصدي لمسبباته الأساسية وغير المرئية في أحيان كثيرة لأنها تنشأ في غياب كلي لأية رقابة. عندما يزول المرض كما وصفناه، تصبح للهوية تعبيراتها الطبيعية التي تكبر وتتسع داخل المواطنة والقانون، دون ذلك لا حل سوى إعادة إنتاج الوضعيات نفسها مع فاعلين Acteurs آخرين، أشد تطرفاً. كل ما يحدث من ردود فعل متطرفة منشؤه وضع غير مستقيم وغير عادل أيضاً بالنسبة للهوية التي أجبرت على الانصياع لما هو أقوى، وُوجهت في كثير من المناطق بأشكال عنيفة لم تحل المشكلة بقدر ما عقدتها. في هذه الحالة يصبح التطرف/ الانتحار منتهى الهويات القتيلة، إذ تضيق معابرها ومؤدياتها ونظرتها.