في حضرة الزلزال: قصص سورية وتركية لن ترويها هوليوود؟
هل يكتب الألم حين تصبح الكلمة نفسها لاتتسع لحجم الاستفهام؟ العالم كله يعيش اليوم تحت صدمة أكبر زلزال يضرب تركيا وسوريا في السنوات العشر الماضية، ويتسبب في كوارث بشرية أشنع بكثير من تلك التي تخلفها الحروب. آلاف العائلات تحت الأنقاض وآلاف الجرحى والقتل والقصص المبكية. مناطق منكوبة بالكامل. كل ما فيها سقط حتى كادت أن تقع السماء. أبنية طاحت بأقل من ثانية، مثل مبنى ولاية شانلي أورفة وغيرها من المباني الكثيرة في تركيا وسوريا حتى يخيل للناظر أن المشهد وهم أو من صلب الخيال ولا علاقة له بالواقع لا من قريب ولا حتى من بعيد. انهيارات أحياء عديدة كحي كامل في مدينة سرمدا.
تسقط عمارة بعد أخرى وكأن مارداً مر من أمامها وهو يضع يده على أسطح العمارات ويخفسها بقوة فتنهار بكل ما فيها. تسمع أصوات الأطفال وهم يصرخون من تحت الأنقاض ولا يستطيعون الحراك. قصص تبكي الحجر. إعلاميون يشهقون بالبكاء مباشرة على الهواء من قسوة المشاهد.
كنت أتكلم مع قريبتي في سوريا، وقالت لي: يبدو أن الموت لا يريد أن يعتقنا ولا يعرف من أين يفترسنا. هو فقط يرغب في قضمنا أحياءً حتى نصبح جثثاً مقطّعة!
أتانا عبر الصوايخ وتركنا أشلاءً مقطعة، ثم جاء مبتسماً حاقداً في براميل الموت المتفجرة لسحقنا. وواجهنا في البحار حين حاولنا الهروب منه. وانتظرنا عند مفارق الجوع لهزمنا. وطوقنا حين كنا من دون مأوى ومأكل وملبس. وحمل سوط العذاب في الطرق والساحات. وكان دليلنا في رحلات الهجرة، وجلادنا في السجون، ولكنه لم يكتف. نعم لم يكتف. فجاءت خبطته الأخيرة زلزالاً ينهينا دفعة واحدة.
قولي لي: ماذا فعلنا كي نستحق كل هذا الكم من الألم؟!
لا شيء نقوله. ولا أحد يستحق كل هذا الوجع.
لكن من أكثر ما سمعته وتأثرت به في اليومين الأخيرين هو ما ردده أحد العلماء، ولا علاقة لما قاله بالعلم، ولكنها كانت قصيدة. لقد أوضح أن الأرض حيّة، تشعر بكل ما يجري من حولها من حروب وجشع وسخط وظلم، وتتفاعل مع الأحداث لذلك تثور وتتمرد وتهتز وتغضب.
قصص كثيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وتفاعل معها رواد «السوشيل ميديا» لحساسيتها وما تحمله من ضعف إنساني وشعور بالعجز أمام تلك المصائب التي حلت على بلدين بين ليلة وضحاها.
من أين نبدأ؟ أنبدأ من العناق الأخير؟
إنه عناق أب لابنه تحت الأنقاض. وُجدت الجثتان في عناق لن ينتهي. ماذا قال الأب لابنه في تلك اللحظات؟ وكيف نام الولد نومه الأخير بين أحضان الوالد؟ هل صرخ كثيراً؟ وكيف واجها الموت؟! مشهد فوق تراجيدي، لن تقدر على محيه الأيام. مشهد يضعف كل قصيدة حزينة. ويسخّف كل الدموع وكل مجاريها وكل منابعها.
ومن عناق إلى ولادة تحت الركام. إلى أم حلبية حامل أنجبت مولودها وهي تصرخ وتنادي وتتمزق ثم أسلمت الروح. كانت وحيدة في مخاضها تحت الحجارة، ولكنها حاولت أن تغلب الموت بانجابها حياة جديدة. كانت الأمومة أقوى من الموت. نعم رحلت، ولكنها تأكدت من إنجاب الطفل أولاً. خرج الطفل حياً يرزق، ولكنه يتيم. يتيم جداً. وحين يكبر يوماً ويعرف كيف ماتت أمه سيشعر بيتم أكبر.
ومن طفل ناج إلى أطفال عالقين أحياء ينظرون من بين الحجارة إلى فرق الإسعاف بعيون صغيرة يملؤها الرعب والألم. إنها آلاء وعمرها لا يتعدى الخمس سنوات عالقة بين حائطين ويلتصق بها أخوها الصغير. يحاول المسعف التحدث معها ليمنحها شيئاً من الطمأنينة:
«بتعرفي تلعبي ألعاب؟»
تسكت طويلاً ثم تجيبه وكأنها تحاول إقناعه بمساعدتها: والله العظيم إذا طالعني لاشتغل خدامة عندك!
كم تحمل تلك الكلمات من حرقة ونضج كبير متعب. إنها الطفولة المشبوهة المنهكة. طفولة شاقة بكل المقاييس. عاشت حروباً وأوبئة وزلازل. نامت في الملاجئ والمشارح والمقابر وتحت الركام، وفي الخيم وفوق أرصفة الشوارع.
أما الشاب السوري الذي خرج من بيته سالماً ليصور الحدث ويساعد الأهالي، فقد وقف أمام كارثة لم يشهد مثلها من قبل. لقد وجد 11 شخصاً من أهله كلهم جثث هامدة ينامون بسكينة أمامه. يقول إنه أكل معهم الكبة منذ أيام وإن هاتفه كان يضج بأحاديثهم واتصالاتهم ورسائلهم وفجأة صمت.
لكنه رغم صدمته وألمه لملم نفسه ووقف لمساعدة فرق الإنقاذ التي لا معدات كافية معها. لقد تجمع ما تبقى من الشباب الأحياء وحاولوا رفع الحجارة بأياديهم متجاوزين كل الخلافات السياسية والدينية. جمعتهم تلك اللحظات الإنسانية وكان الشعور بالتضامن والأخوة في ذلك المصاب الكبير أقوى من كل خلاف.
كذلك أسهمت السوشيل ميديا في نقل حرارة الألم عبر صفحات الناشطين.
لم يتوقف حفيظ دراجي، المعلق الرياضي الجزائري في دعم المتضررين من الزلازل بنشر صور عن الحادثة، التي نالت تفاعل وتعليق الآلاف من المتابعين، ومن أبرز ما كتبه:
«هذا الزلزال الصغير لم يأت ليرينا حجمه، وإنما جاء ليرينا حجمنا، ويذكرنا بعظمة ربنا. هي ثوان جعلتنا نشعر بضعفنا وقلة حيلتنا، جعلتنا ندرك أنه ربما بلحظات نعود إلى خالقنا، لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وعلم نافع وعمل مفيد».
أما الشيف التركي بوراك فقد ظهر في فيديو، وهو يجهش في البكاء مطالباً المشاهدين بالمساعدة وطالبهم بفعل كل ما بوسعهم لإنقاذ الضحايا.
لقد نجح فريق ملهم التطوعي في إنقاذ العشرات حتى الآن. يعمل الفريق ليل نهار لإخراج العالقين تحت الأنقاض وجمع التبرعات للمتضررين عبر توظيف السوشيل ميديا. لقد كانوا ينقلون لنا القصص مباشرة من أمام الحدث ليجمعوا ما أمكن من التفاف ومساعدات للناس ومن بين القصص، التي لاقت دعماً كبيراً، فيديو نشره أحد مسؤولي الفرق عاطف نعنوع لطفل مجروح متعب وجائع وهو يأكل موزة:
«كنا عم نوزع أكل للناس والمتطوعين من الدفاع المدني والجرحى. شفنا هالطفل. قال الممرض ما إلو حدا أي (ليس له أحد يسأل عنه). مات أهله وهو وحيد. عطيناه موزة. هو تعبان كتير وعطشان كتير. لازم تعرفوا قديش تعبانين وتدعولن من قلبكم».
إن الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا كارثة كبرى، ولكن الكارثة الأكبر هي ما بعد الزلزال. هل ستجد تلك العائلات بيوتاً تأويها، فكثيرون ينامون داخل السيارات. فرق الإنقاذ التطوعية، وفي المقدمة منهم أصحاب الخوذ البيضاء، يقومون بعملهم النبيل، ولكن كم من فرق إضافية نحتاج لنتمكن من مساعدة كل المتضررين والمنكبوين؟
*٭ كاتبة لبنانيّة