الزلزال المُروع: استلاب العقل
في اليوم التالي للزلزال المُروع الذي أصاب تركيا وسوريا، خرجت من بيتي في باريس باكراً، أحسست صدري سينفجر من القهر والألم. قصدت صيدلية كبيرة في باريس هي تبيع الفيتامينات وكريمات البشرة والشامبو بأسعار أقل من نصف سعرها في الصيدليات العادية، ( لكن سعر الأدوية مُوحد في الصيدليات في فرنسا ) . وقفت في طابور طويل من النساء والرجال، والكل يحترم الوقوف في الطابور، أحب هذا الحشد كي أحكي مع الناس من كل الجنسيات فكلنا أخوة في الإنسانية.
الكارثة الهائلة
كانت امرأة في الأربعينيات محتشمة جداً في لباسها، تضع حجاباً على رأسها ومعها طفلتها (قدرت عمرها ست سنوات) فرحت أنها عربية وعرفت أنها من دولة عربية، وأنها في باريس منذ خمسة عشر عاماً، وقلت لها أنا من سوريا، فنظرت إلي ببرود وقالت – دون أدنى تأثر أو تعاطف في صوتها ونظرتها – مساكين حصل عندكم زلزال ! لم أجب لأنني كنت أنتظر – أو أتوقع – أن تترحم على الموتى وعلى الأطفال وعلى العالقين تحت الأنقاض وعلى الدمار الفظيع وفقدان الآلاف لبيوتهم . لكنها لم تقل كلمة. أحسست بالغيظ فقلت لها: كارثة مروعة و .. لم تتركني أكمل عبارتي قالت: هذه مشيئة رب العالمين. لطالما سمعت هذه الفكرة بأن الله يبتلي الناس بالمصائب من براكين وزلازل وأمراض لغاية إلهية !! سألتها : ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين ماتوا أو لا يزالون عالقين تحت الأنقاض أو سيصيرون معوقين، قالت: هذا قدرهم رب العالمين له غايات لا ندركها. استفزني كلامها وطريقة تفكيرها وسألتها: لا قدر الله لو أن الزلزال أصاب مدينتك وقتل ابنتك ماذا ستقولين؟ أجابت: بالتأكيد سأحزن كثيراً لفترة معينة ثم أقول هي في جنان الخلد عند رب العالمين سعيدة وآمنة. تحول الحوار بيننا إلى ما يُشبه المُناظرة أو من ستلوي ذراع الأخرى . سألتها: لو أن رب العالمين يخلصنا من المجرمين والأشرار وهم وحدهم يموتون كم كانت الحياة أجمل وإنسانية ؟ شهقت وغضبت وقالت: أعوذ بالله من كلامك بالعكس تماماً الله عز وجل من الأفضل أن يطول عمر المجرمين كي تزيد جرائمهم وبالتالي يكون عقابهم أقسى بكثير. قلت لها: لكن حين يطول عمر المجرمين هذا يعني المزيد من الضحايا والمظلومين الأبرياء ؟!! قالت: لا بأس هذا قدرهم .
آلمني أن الحوار بيني وبين تلك المرأة التي فقدت أي حس إنساني ولم تتعاطف إطلاقاً مع ضحايا الزلزال تسمعه ابنتها، التي إن ماتت ستحزن عليها لفترة قصيرة ثم ستفرح لأنها في جنان الخلد مع رب العالمين سعيدة وآمنة. فكرت كيف يُمكن لإنسانة ( خاصة أنها أم أي تعرف معنى الرأفة والحنان) أن تفقد كل المشاعر الإنسانية، ألا يُدمي قلبها منظر أطفال ونساء هدمت بيوتهم فوق رؤوسهم ومنهم من يصرخ تحت الأنقاض، كيف بإمكانها أن تكون بهذا البرود القاسي الأقرب للتشفي والسخرية من هؤلاء الذين يدمي قلوبهم مأساة الزلزال، كما لو أن التعاطف كفر وعصيان للمشيئة الإلهية . هي لا تفهم معنى عبارة الله الرحمن الرحيم . الله بالنسبة لها هو القهار والجبار وهذا ما رسخه الإعلام من خلال قنوات دينية تستضيف رجال دين يدخلون الرعب والذعر ويحكون بنار جهنم وعذابات القبر.
آخر إحصائية قرأتها أن هناك حوالي مئتي قناة دينية في الوطن العربي كلها ترسخ الخوف وتشل المنطق والعقل والمُحاكمة وتدس سموم الأفكار في عقول الناس وتمنعهم من السؤال (أحد الفلاسفة يقول: الإنسان سؤال). يصبح كل تفكيرهم بالحرام والحلال وبالجنة والنار.
موسوعة الآخرة
حين كنت في الجزائر كضيفة عام 2007 حين كانت الجزائر عاصمة للثقافة العربية، كانت الندوة رائعة في المكتبة الوطنية في الجزائر في نهاية الندوة تقدم مني رجل لبق أنيق، وعرفني بنفسه فهو أحد أهم الناشرين في الجزائر حتى أنه يتبرع بأموال كبيرة لوزارة الثقافة الجزائرية، وقال إنه يتشرف أن يقدم لي هدية وشكرته، حين عدت مساء إلى غرفتي في الفندق وجدت طرداً كبيراً يضم ثمانية مُجلدات بالغة الفخامة من المخمل ومكتوب على غلافها بماء الذهب. المجلدات كلها كانت عن (موسوعة الآخرة). وكلها كانت عبارة عن مواعظ دينية لأهم رجال الدين وفتاوى كثيرة يمكن تلخيصها أن الحياة على الأرض عابرة وفانية، وأن الأهم والغاية هي الحياة الأخرى أي الشهادة والموت في سبيل إحقاق الحق والعدل وأن الشهداء عند الله أحياء يرزقون. موسوعة الآخرة ثمانية مجلدات ترسخ ثقافة الموت وتحتقر الحياة وتسخر منها وبين صفحاتها أشعار وأناشيد تتغزل بالموت وتتمناه. وقمة فرح الأهل أن يتلقوا خبر استشهاد ابنهم أي ينجبون أولاداً ليموتوا.
تغييب العقل
للأسف هذا التفكير يزداد انتشاراً وضحاياه من جيل الشباب الذي يبحث عن معنى لحياته، الذي لا يجد قدوة ولا توجد برامج توعية ولا قناة تلفزيونية واحدة ثقافية.
ترسيخ الجهل وتغييب العقل هو الغاية كي يندفع هؤلاء الشباب إلى الموت من أجل مصالح الحكام المدعومين برجال الدين وهؤلاء لا يموتون بل يُضحون بشعوبهم والشباب للموت.
وأحب هنا أن أعطي مثالين عن ثقافة التجهيل: الأول: البرنامج الذي تقدمه مريم نور في التلفزيون منذ أكثر من عشر سنوات ومعظم أفكارها مسروقة من الفيلسوف أوشو. وتدعي أنها تملك خططا لعلاج السرطان، وكنت شاهدة على حالتين لسرطان ثدي عند شابتين في اللاذقية أرسل أهلهما في طلب مريم نور لتضع لهما برنامجاً غذائياً يشفيهما من السرطان وقبضت الملايين . أوقفت الشابتان العلاج الكيماوي للسرطان والتزمتا بنصائح مريم نور وتوفيتا بعد أقل من شهر.
المثال الثاني: الاستضافة المستمرة للمنجمين، خاصة ليلى عبد اللطيف التي يسمونها: سيدة التوقعات والإلهام قبل الزلزال بيوم واحد كانت مقابلة طويلة معها بالغت في مدح نبيه بري وبكت بحرقة على إعدام صدام حسين والقذافي وقالت هؤلاء رجال عظام كم من المؤلم إعدامهم . تنبأت بعودة سعد الحريري وتنبأت أن لبنان المنكوب سوف يكتشف عشبة ولا أروع تعالج السرطانات كلها لكنها لا تعرف اسم العشبة !!! لكن سيدة التوقعات والإلهام ليلى عبد اللطيف لم تتنبأ بالزلزال الذي حصل بعد يوم من المُقابلة والتي أعيدت أربع مرات. ثمة خطة مدروسة لترسيخ الجهل عبر استضافة رجال دين متخلفين يحضون على الكراهية للآخر وعلى الجهل ومنجمين صاروا أشهر من السياسيين وصاروا نجوماً وتحقق كتبهم أعلى المبيعات.
كاتبة من سوريا