ثقافتنا.. قطع أم قطيعة؟
منذ مشارف القرن العشرين مروراً بعقوده الأولى والوسطى حتى ربعه الأخير كانت العقول العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه، من محيطه إلى خليجه، تتلاقى أقلامها المبدعة وتلتم داخل بؤر ذات فعل مركزي جامع يتمثل في المجلات والدوريات الفكرية والأدبية والعلمية في بيروت والقاهرة وبعض العواصم الأخرى أحياناً كمجلات المقطم والهلال والرسالة المصرية والأديب والآداب والطريق وشعر وحوار اللبنانية ولغة العرب والأقلام في العراق. إذ أن ما يُنشر فيها من نصوص وموضوعات، كان القارئ يتلقفه من مشرق الوطن العربي إلى مغربه.
وهو ما جعل تلك المجلات مراكز إشعاع أدبي تبث العطاءات الفكرية بمختلف مستوياتها وتوجهاتها وتفرعاتها. ومن المفرح أن تلك المجلات على قلتها آنذاك، كانت تؤدي هذا الدور الكبير والمركزي في التعريف بالمبدعين. فكان المتلقي في كل أصقاع وطن الضاد وأمصاره يلتقي من خلال صفحاتها بهؤلاء المبدعين ويتعرف على عطاءاتهم وتجاربهم بدءا من المغرب وتونس وليبيا ومرورا بمصر والشام والعراق وانتهاء بأقصى الخليج العربي، وهكذا عرفنا نحن أهل المشرق أدباء المغرب العربي مثل محمد ديب ومحمد العروسي المطوي وكاتب ياسين وادريس الخوري ومحمد زفزاف وغيرهم.
ولو نظرنا في فهارس أية مجلة من مجلات تلك المرحلة، فسنجدها حافلة بأسماء أدباء من مختلف أصقاع الوطن العربي، هم اليوم يعدون كبارا في الإبداع، ففي العدد الأول من مجلة «الآداب» الصادر في كانون الثاني 1953 اجتمعت الأقلام العربية المبدعة من كل حدب وصوب لتنبت إبداعها على صفحاتها، فكان من مصر أنور المعداوي وأحمد زكي، ومن دمشق فؤاد الشايب وعبد الله عبد الدايم، ومن العراق نازك الملائكة وشاكر خصباك، ومن البحرين إبراهيم العريض فضلا عن أدباء لبنان. وحتى أدباء المهاجر ساهموا في هذا العدد فكتب نزار قباني من لندن وتوفيق يوسف عواد من طهران وخليل تقي الدين من ستوكهولم وصباح محيي الدين من باريس كما تابع هذ العدد النشاط الثقافي في كل من مصر والعراق ولبنان وسوريا.
وشارك أدباء مصر مثل عبد الرحمن بدوي وأمين يوسف غراب في العدد الأول من مجلة «الأديب» كانون الثاني 1947 ومعهم أيضا شكري فيصل من سوريا ومصطفى فروخ وجبور عبد النور وعلي شلق من لبنان.
بهذا الشكل عملت المجلات على خلق التواصل الثقافي بين مبدعي العربية والتعرف على تجاربهم ونشرها وذيوعها خارج الجغرافية الضيقة لأقاليمهم ووحدت اهتمامات ذلك الإبداع وهمومه والتفاعل معه، فقصيدة يكتبها الشابي في تونس وتنشر في بيروت سرعان ما تنتشر على امتداد الوطن العربي، وقصيدة يكتبها احمد عبد المعطي حجازي في مجلة «الأديب» اللبنانية يتم الاهتمام بها في المحافل الأدبية في العراق والشام والخليج وتناقش بجدية وهمة عاليتين، ومقالات يكتبها طه حسين في «الرسالة» تسري بأصدائها في التجمعات الثقافية وأروقة الإبداع في تونس وسوريا ولبنان وهكذا.
هو ما أبان للأدب العربي خطوط ملامح مستوياته على صعيد قومي. فكان لهذه المجلات الدور الفعال في احتضان تجربة الحداثة العربية ونشرها وذيوعها وعلى وجه الخصوص تجربة رواد حركة الشعر الحر وفرسانها العراقيون وموجة الحداثة الثانية وفرسانها الشاميون.
ولكن بعد ثمانينيات القرن الماضي ضعف هذا التواصل وتقاطعت الطرق بين المبدعين العرب وغابت مراكز الاشعاع وتوارى تأثيرها. وما عاد الأديب في المشرق العربي وبالتأكيد القارئ أيضا يعرفان من عطاء أهل المغرب – وهو ثر وكبير – شيئا. وما عادا يعرفان أسماء جديدة غير تلك التي كانا يعرفانها في العقود الزاهرة. فأدباء مصر مثلا لا يعرف القارئ عنهم سوى ما عرفهم سابقا كمجاهد عبد المنعم وشكري عياد ومحمد مندور وأمل دنقل وادوارد الخراط كذلك الحال في سوريا وفلسطين وتونس، ولا يعرف القراء اليوم من مبدعي العراق الحاليين مثلما عرف الشعراء الراحلين السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري والبياتي وغيرهم ومن القصاصين عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد خضير.
فالإبداع العربي اليوم يعيش في جزر معزولة بعضها عن بعض، ومن المؤكد أن المبدع العربي لم يختر مثل هذا القطع الثقافي لعصر التواصل الزاهر؛ فثمة حواجز كبيرة وحدود مقيتة فرضت عليه هذا القطع. وهكذا غدا القارئ العربي جاهلا الأسماء المبدعة التي لها تجارب خلاقة ومستويات غير اعتيادية في الشعر والسرد والنقد، ويشاركهم في ذلك ذوو الاختصاص؛ فعشرات النقاد اليوم يجهلون الكثير عن التجارب الأدبية العربية المهمة التي نمت بعيدا عن أقطارهم.
فعلى سبيل المثال في العراق اليوم تجارب إبداعية ذات قيمة عالية ولكنها لم تحقق الانتشار، بل لم تصل حتى إلى مستوى أن تُعرف في أقطار أخرى. ولو استشهدنا ببعض هذه الأسماء من العراقيين ومثلها من بلدان الوطن العربي الأخرى لاستغربها القراء. وهو أمر طبيعي للأسف بسبب هذه القطع البغيض، فكم من القراء العرب يعرف الآن شعراء بوزن ياسين طه حافظ وعبد الرحمن طهمازي وكاظم الحجاج وموفق محمد وعبد الزهرة زكي وغيرهم. ومثلهم في القصة أيضا، وبالمقابل يجهل متلقينا العراقي أسماء مبدعة مهمة جدا في البلدان العربية الأخرى.
وهنا وللحقيقة المحضة لابد لنا من تأكيد الدور المهم الذي تؤديه الصحافة الثقافية التي تصدر في العواصم الأوربية وهو دور لا يمكن نكرانه، وهو محاولة حميدة لرأب الصدع وإعادة اللحمة إلى الثقافة العربية وبالقدر الذي تسمح به إمكانياتها وأوضاعها الصعبة من أجل العودة لصنع مراكز إشعاع للإبداع العربي، موصلة بين مشرقه ومغربه. ولكي نكون منصفين فعلاً نذكر الصفحتين الثقافيتين في جريدتي القدس العربي والشرق الأوسط اللتين تصدران في لندن.
ونرى أن للنقد دورا أيضا في معالجة هذا القطع، فبه تُناط مهمة التعويض والردم توشيجا وتقريبا بين المبدعين في الوطن العربي. ولعل النقد بذلك يسد فراغا من الفراغات التي تركتها المجلات الأدبية العريقة. وقد يُعتذر للنقد بفوضى النشر ومشاكل التسويق غير أن المرحلة التاريخية تظل تفرض على النقد تأدية دوره في التوغل في دائرة الإبداع العربي بحثا عن الأصيل والمبدع وإن بعُد عنه مكاناً.
والمسألة ليست مسألة انتشار مأسوف على فقدانه، بل المسألة هي في وحدة الوعي بدور الإبداع الثقافي أي وحدة فاعلية العقل في مواجهة المصير. ومحنة القطع هذه أمر لا نبرئ حصوله بتأثير مخططات ومشاريع سياسية كان لها الدور البارز في جعل الإبداع العربي يعيش حالة العزلة عن بعضه بعضا. وللدكتاتوريات العربية دور في ذلك بسبب معاداة بعضها لبعض وعدم السماح لمنشورات بلد هذا الدكتاتور من الوصول إلى بلد الدكتاتور الآخر، فسجنوا مواطنيهم أجساداً وعقولاً.
وحين ندعو إلى تفعيل وحدة الثقافة العربية فلسنا منطلقين من تعنصر أو تعصب أو شوفينية، بل ننطلق من الرغبة في شحذ كل ما في هذه الثقافة من طاقات وممكنات، وزجّها في معترك الإبداع العالمي والإسهام فيه.